ما أشبه اليوم بالأمس مذبحة سربرينيتسا (2)

2021.07.20 | 06:32 دمشق

news-120720-bonia2.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الثلاثين من سبتمبر عام 2003، افتتح الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون النصب التذكاري للإبادة الجماعية في سربرينيتسا تكريماً للضحايا. ومما قاله يومها: "يجب أن نحيي أرواح الأبرياء، وكثير منهم أطفال، الذين قُتلوا في ما يجب أن نسميه جنون الإبادة الجماعية". ومنذ ذلك التاريخ دأب البوسنيون على إضافة قبور جديدة إلى مقبرة "بوتوتشاري" التي تضم ضحايا المذبحة.

تحتوي قائمة الأشخاص المفقودين أثناء المذبحة التي أعدتها اللجنة الفيدرالية البوسنية للمفقودين على 8373 اسماً. وقد تم التعرف على 6838 ضحية من الضحايا، بواسطة تحليل الحمض النووي لأجزاء الأجسام المستردة من المقابر الجماعية. اليوم تضم المقبرة أكثر من ستة آلاف قبر، وما زالت تتوسع.

بعد "مجزرة الحولة" التي نفذها مسلحون موالون لنظام الأسد يوم 25 من مايو عام 2012، زعم الإعلام السوري الرسمي أن جماعات مسلحة تتبع لتنظيم القاعدة هي المسؤولة عن العملية. باستثناء تقرير نشرته صحيفة ألمانية مغمورة، فإن رواية الأسد لم تحصل على أي دعم عالمي. كثيراً ما أنكر نظام الأسد المجازر التي ترتكبها قواته إنكاراً تاماً نافياً حدوثها، وفي مرات قليلة كان يضطر للاعتراف بها، ناسباً المسؤولية عنها لمجموعات مسلحة إرهابية حسب وصفه. حدث هذا الإنكار تكراراً منذ عقود، فلا مجازر حدثت في حماة عام 1982، فهي مجرد عمليات محدودة ومنضبطة ضد مسلحي الإخوان المسلمين الذين اعتدوا على المدنيين وعائلات العسكريين في المدينة حسب رواية الأسد الأب، وقبلها لم تكن هناك أي مجزرة في سجن تدمر عام 1980، إنما هي كذبة ملفقة ولم تحدث في الواقع أبداً. عموماً، كل التقارير الحقوقية والأممية حول تلك المجازر هي مختلقة في سياق محاولة تلطيخ سمعة نظام الأسد.

ثقافة إنكار الإبادة الجماعية في المجتمع الصربي، تتخذ أشكالاً عديدة، وإنها حاضرة بشكل خاص في الخطاب السياسي والإعلام والقانون والنظام التربوي

رغم كل الإثباتات العينية، ما زال لدى الصرب لليوم نزوع عام للتخفيف من أعداد الضحايا، وفي بعض الأحيان اعتبار معظم الضحايا جنوداً سقطوا في المعارك. يتراوح هذا التشكيك، من تحدي كل ما جاء في الاعترافات القضائية بعمليات القتل كعملية إبادة جماعية، إلى إنكار وقوع مذبحة أساساً، بينما يذهب البعض للتبرير بأن المذبحة جرت ردّاً على مقتل المدنيين الصرب على أيدي مقاتلي البوسنة.

تشير "سونيا بيسركو" رئيسة لجنة هلسنكي لحقوق الإنسان في صربيا، إلى أن "ثقافة إنكار الإبادة الجماعية في المجتمع الصربي، تتخذ أشكالاً عديدة، وأنها حاضرة بشكل خاص في الخطاب السياسي والإعلام والقانون والنظام التربوي".

ذكرت إحدى الناجيات البوسنيات في شهادتها حول مقتل رضيع في المنطقة المجاورة لمقر جنود حفظ السلام الهولنديين التابعين للأمم المتحدة، أن هؤلاء لم يفعلوا شيئًا لمنع ذلك. بحسب الناجية، طلب أحد المسلحين الصرب من أمّ أن يكفّ طفلها عن البكاء، وعندما لم يستجب الطفل، أخذه من حجر أمّه وذبحه. كان الرجل يضحك أثناء ارتكابه تلك الجريمة الفظيعة. وعن تعرض آلاف النساء والفتيات للاغتصاب والاعتداء الجنسي، وبحسب شهادة زومرا شيوميروفيتش: "بدأ الصرب بفصل الفتيات والشابات عن مجموعة اللاجئين الذين كانوا سينقلون إلى مناطق البوسنة. كل أولئك تعرضن للاغتصاب. وكثيراً ما كانت عمليات الاغتصاب تحدث أمام أعين أطفال المغتصبة. لم يحدث ذلك أمام عيني فحسب، لكنه حدث أمام أعيننا جميعاً".

كانت أوامر الجنود الصرب تقضي بترحيل النساء والأطفال وكبار السن، وقتل كل الرجال. حدثت تلك التصفيات بعد تجميع الرجال في أماكن خاصة، ومن ثم نقلهم إلى أماكن التنفيذ ليدفنوا في مقابر جماعية.

في مساء يوم 11 من يوليو/ تموز، طلبت القيادات البوسنية في البلدة من جميع الرجال البوسنيين الأصحّاء التوجه إلى الغابة، مع أعضاء الفرقة 28 من المقاومة البوسنية، في نيّة لمحاولة اختراق القوات الصربية، والوصول إلى الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة البوسنية. اعتقد الرجال أنهم بذلك يتمتعون بفرصة أفضل للنجاة مما لو سمحوا لأنفسهم بالسقوط في أيدي الصرب الذين يقتربون. في منتصف الليل تحرك الطابور الذي ضمَّ أكثر من عشرة آلاف رجل. في السادس عشر من يوليو سيصل ثلث أولئك الرجال إلى وجهتهم، أما البقية فكانت نهايتهم في المقابر الجماعية. الغالبية العظمى من ضحايا المذبحة كانوا من أفراد هذا الطابور ممن فشلوا في إكمال تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر.

وقع هؤلاء ضحية هجمات وكمائن القوات الصربية، أما من استطاع الفرار منهم ضمن الغابات، فقد تم إقناعهم بالعودة وتسليم أنفسهم. يصف أحد الشهود الصرب الذين أجبروا رجلاً بوسنيًا على استدعاء البوشناق الآخرين من الجبال، أن نحو 200 إلى 300 رجل، وافقوا ونزلوا للقاء أفراد الجيش الصربي، متوقعين على الأرجح أنهم سيخضعون فيما بعد لتبادل الأسرى. رأى الشاهد الرجال وهم يصطفون في سبعة صفوف طويلة، وأيديهم خلف رؤوسهم، لتفتح بعدها نيران المدافع الرشاشة باتجاههم.

وفي واقعة تحيل إلى مجزرة تدمر الشهيرة التي راح ضحيتها مئات السجناء على أيدي وحدات من سرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد. يصف أحد الناجين، ما تعرض له رجال بوسنيون في أربعة مستودعات تملكها التعاونية الزراعية في "كرافيكا"، احتجز فيها أكثر من ألف رجل قُبض عليهم من أماكن متفرقة: "عندما احتُجز الرجال جميعًا في المستودع، ألقى الجنود الصرب القنابل اليدوية عليهم، وأطلقوا باتجاههم نيران أسلحتهم المختلفة. عندما توقف إطلاق النار، كانت الأرض مليئة بالجثث. كنت أتقدم فوق القتلى. كان هناك رجال ما زالوا على قيد الحياة، كنت أسمع تأوهاتهم وأنا أتحرك فوقهم بأسرع ما يمكن. عندما قفزت من النافذة، رآني حارس وأطلق علي النار. تظاهرت بالموت. فيما بعد، تمكنت من الفرار".

إضافة للقادة من أمثال سلوبودان ميلوزيفيتش الرئيس الصربي الأسبق، ورادوفان كاراديتش رئيس جمهورية صرب البوسنة، وراتكو ملاديتش قائد جيش صرب البوسنة، فقد وجهت التهم بارتكاب الجرائم لعشرات العسكريين الصرب، وفقاً للوائح اتهام صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، التي حكمت على معظمهم بأحكام تتراوح بين عدة سنوات والسجن المؤبد.

لقد أنجبت أطفالاً لعبوا وضحكوا، وذهبوا إلى المدرسة، لكن في النهاية كل ما كان عليّ أن أفعله، مجرد دفن كومة من العظام

عام 2017، بعد الحكم على ملاديتش علقت خديجة محمدوفيتش: "إن عقوبة السجن المؤبد لملاديتش هي مجرد قطرة في المحيط". قُتل ابن خديجة الأكبر وزوجها معاً برصاص إحدى فرق الإعدام، وتوفي ابنها الأصغر بمفرده، بينما كان يحاول الاختباء من قاتليه. عُثر لاحقا على رُفاتهم ضمن أكثر من 100 مقبرة جماعية كانت قد اكتُشفت في المنطقة المحيطة بسربرنيتسا. في عام 2010 أعادت خديجة دفنهُم في مقبرة  بوتوتشاري. تصف خديجة حالتها: "أنا أم أنجبت ولدين. لكن لم يعد لدي أحد اليوم. أذهب إلى الفراش وحدي وأستيقظ وحدي. لقد أنجبت أطفالاً لعبوا وضحكوا، وذهبوا إلى المدرسة، لكن في النهاية كل ما كان عليّ أن أفعله، مجرد دفن كومة من العظام".