"مئة يوم" بشار الأسد

2021.02.02 | 00:03 دمشق

20110331-101001-744b4.jpg
+A
حجم الخط
-A

في تقليدٍ مُتَّبع في العديد من دول العالم، يحرص رئيس الدولة أو رئيس الوزراء المنتخب على تنفيذ أكبر قدر ممكن من وعوده لناخبيه، أو الوعود التي وردت في بيان حكومته أمام البرلمان خلال فترة قياسية، عادة هي المئة يوم الأولى لتولي المنصب. لكن ماذا لو أردنا سحب هذا التقليد إلى سوريا؟ إن أول سؤال ينطوي على الكثير من العجب المرير سيكون: كم كانت "مئة يوم" بشار الأسد طويلة؟! ولماذا لم تنتهِ بعد؟ اليوم، وبعد واحد وعشرين عاماً على وراثته كرسي رئاسة سوريا، إثر موت أبيه الديكتاتور المؤسس حافظ الأسد، ماذا حقق بشار الأسد لسوريا والشعب السوري من وعوده الانتخابية؟ ولكن هل كان للأسد ما وعد به؟

ربما بنوايا طيبة، وبنزعة رغبوية، تم تفسير بعض المثقفين والمفكرين تلك الإشارات على هذا النحو، رغم أن الأسد الشاب كان يؤكد في كل فقرة من فقرات خطابه، أنه لن يريد إحداث ذاك الانقلاب المنشود سورياً

وريث أبيه، قام بكل ما يقوم به الرؤساء المنتخبون بعد فوزهم بالانتخابات في بلدانهم. ففي عام 2000 أدى اليمين ومن ثم ألقى كلمة أمام مجلس الشعب. كلمة سوف يتداولها الإعلام السوري على أنها "خطاب القسم". وأن يقوم إعلامه بالتهليل لها كخطة طريق لمستقبل سوريا، فهو أمر مفهوم ويأتي في سياق ما درج عليه هذا الإعلام خلال فترة أبيه، ولكن أن يتفاءل به يومها بعض من النخب والمثقفين، ومنهم معارضون على نحوٍ ما، فذاك كان يحدث للمرة الأولى. الخطاب لم يكن يختلف في شيء عن خطابات الأب سوى بالكثير من الحركات التهريجية التي أداها الرئيس الغرّ، وببعض الإشارات إلى ضرورة التطوير والتحديث، المصطلح الذي سيبقى أثيراً لسنوات تالية، مع الوعد بالبناء على إنجازات (القائد الخالد) "والبناء على ما تحقق في عهده الزاهر"، وتعبير "عهده الزاهر" ورد هكذا حقيقةً في الخطاب. ولأن الاستقرار على وتيرة تكاد تكون ثابتة في الحياة السورية، بما سادها من فساد في الاقتصاد والقضاء ومن مصادرة للحريات وللسياسة بعد مجازر عديدة خلال حكم حافظ الأسد، فإن بضع إشارات في خطاب الأسد الابن دفعت العديدين إلى اعتبارها انقلاباً على العهد القديم، الذي يستحق بجدارة أن يُمسح من ذاكرة السوريين لو أمكن.

ربما بنوايا طيبة، وبنزعة رغبوية، تم تفسير بعض المثقفين والمفكرين تلك الإشارات على هذا النحو، رغم أن الأسد الشاب كان يؤكد في كل فقرة من فقرات خطابه، أنه لن يريد إحداث ذاك الانقلاب المنشود سورياً. مراراً أكّد ذلك في جمل متكررة ومتشابهة من مثل "مصممين على تذليل الصعوبات ومواكبة العصر دونما التخلي عن ثوابتنا الوطنية والقومية التي رسخها (القائد الخالد) في قلوبنا وعقولنا".

كان يتحدث عن تطويره وتحديثه المزمعين، مع تأكيده على دور "الحرس القديم" من رجالات أبيه الذين هيؤوا له، شكلياً على الأقل، الوصول لمنصبه الجديد، فيشرح لنا خطأ البعض حين يعتقدون أن الفكر المتجدد مرتبط بالسن، مؤكداً أن بعض الأشخاص يدخلون سن الشباب وقد تحجرت عقولهم باكرا، والبعض الآخر من كبار السن يفارق الحياة وعقله ما يزال يضج بالحيوية والتجدد والإبداع‏. تلك الفقرة، إضافة إلى أنها كانت مكافأة لهؤلاء بسبب خدماتهم، فإنها طمأنة لهم بدورٍ سوف يقومون به في السنوات التالية. ولن ينسى أحد الفضل لهؤلاء في المعارك النظرية التي خاضوها خلال قمع ربيع دمشق، وسجن أبرز رموزه.

كانت جملة من (خطاب الأمل) تشير إلى أنه لابد من "الإصلاح والتطوير في مؤسساتنا التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية بما يخدم قضايانا الوطنية والقومية‏"، كانت جملة كهذه، كافية لجعل كثير من السوريين يعتقدون أن سوريا قادمة على مرحلة جديدة. اليوم وبعد واحد وعشرون عاماً ما زال الأسد يكرر تلك الجمل أو يردد ما يشبهها، مع خلاف أن السوريين اليوم باتوا يدركون تفاهة مثل تلك العبارات وانعدام قيمتها، وأنه ولا لمرةٍ، ترتب عليها أي أثر حقيقي.

عن فهمه الخاص للديمقراطية الصالحة لنا، وهي الحلم المزمن وبعيد المنال للسوريين، سيشرح الأسد لنا أي ديمقراطية نحتاج؟ طبعاً، بعد أن يميّز لنا، حتى لا نقع في أي التباس، بين الانتخاب وحرية النشر وحرية الكلام باعتبارها ممارسات ديمقراطية ونتائج لها ولكنها ليست الديمقراطية. ليصل إلى استنتاج بأنه لا يجوز أن نطبق ديمقراطية الآخرين على أنفسنا، إنما يجب أن تكون لنا تجربتنا الخاصة بنا المنبثقة عن تاريخنا وثقافتنا المناسبة لمقتضيات واقعنا. طبعاً ستلاحظون حتماً، أن بشار الأسد كان يدرك هذا الواقع بينما كان عموم السوريين غافلين عنه. أما ما لخّص كامل فهمه للديمقراطية كان حين توّج فقرته تلك بالاستشهاد بأعظم منجز ديمقراطي حققه الأسد الأب وهو الجبهة الوطنية التقدمية كنموذج (لست أمزح، راجعوا خطابه بأنفسكم).

قد لا يعرف جيل من السوريين أن الأسد الابن، ومنذ خطابه الأول، كان يسعى لإعادة اكتشاف البارود (بعد عام 2011 سيعرفون ذلك). ولكن سريعاً سيكتشف السوريون خلال السنوات الأولى لحكم بشار الأسد، أن خطاب القسم ما هو إلا نسخة أولى عما سيليه من خطابات، سيلقيها في المحافل السورية والعربية، وتتضمن ذات الثرثرة الفارغة، وأكثر من ذلك، سيكتشفون وَلَعه باللعب السخيف على اللغة، ومحاولة بناء مفاهيم وتصويب أخرى، ليوضح لجمهور المستمعين الغافلين الذين يحتاجون غزارة علمه، حتى لو كان هؤلاء رؤساء دول في محفل ما، جهلهم بالحداثة التي يمتلك الرئيس الشاب فلسفته العبقرية الخاصة لها.

في خطبته تلك ثرثر حول العراقيل البيروقراطية التي تعيق تطور الاقتصاد، وضرورة إزالتها مع مكافحة الهدر والفساد، ليبدأ السوريون بعد فترة وجيزة بسماع أسماء مخلوف وحمشو وشاليش وغيرهم من الحيتان الذين ابتلعوا الاقتصاد، كروافع للاقتصاد السوري كما رآه بشار الأسد. سيتحدث عن الإصلاح القضائي ليتحول القضاء خلال فترة حكمه لهيئة يستشهد السوريون بها كرمز للمؤسسة الفاسدة. وكذا التعليم والصحة وغيرها. ستنمو العشوائيات ويتفاقم الفقر، ويستمر قمع أي صوت معارض، وصولاً لليوم حيث تتربع سوريا في أعلى (أو أسفل) المؤشرات العالمية. إن كان المؤشر للفساد أو القمع ستكون سوريا في أعلى القائمة، وإن كان للصحة أو حريّة الصحافة أو التعليم، فإنها ستتربع في أسفل أي مؤشر من هذا النمط. ولن نذكر هنا إنجازات الأسد المعروفة في القتل والتدمير والإخفاء والتهجير وباقي ما حدث بعد عام 2011.

في ختام خطاب القسم، وفي لفتة ستبدو بعد خمس سنوات بالغة الطرافة، قبل خروجه وخروج مخابراته وجيشه صاغرين من لبنان إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سيتحدث الأسد عن العلاقة بين سوريا ولبنان باعتبارها نموذجاً للعلاقة بين البلدان العربية. "نموذج حقق للبلدين الكثير مما لم يكن من الممكن تحقيقه لو أن كل بلد عمل بمفرده وبمعزل عن الآخر" بحسب قوله.

لن يمتلك شهامة وشجاعة المتنبي في المواجهة، وهو من أثبت خلال أكثر من عقدين أنه لم يهتم إطلاقاً بامتلاك أية قيمة أخلاقية

قبل عدة قرون، مات الشاعر المتنبي بقولهِ "الخيل والليل والبيداء تعرفني..."، حين ذكّره مطاردوه وهو يفرّ أمامهم ببيت الشعر ذاك، فعاد لمواجهتهم، ومات ولم يدع لقاتليه مجالاً لسبِّه في أنه يقول ما لا يفعل. وعلى كل معايب خطاب القسم، ولمجرد أن ورد فيه تعابير من مثل إصلاح القضاء ومحاربة الفساد والديمقراطية والشفافية (ملف الإخفاء القسري وحده كافٍ للتدليل على مدى عمق إيمانه بالشفافية)، فإن بشار الأسد الذي استمرأ القتل تحت التعذيب، سوف لن يتردد بقتل من يذكّره بما جاء في ذاك الخطاب، وبالتأكيد لن يمتلك شهامة وشجاعة المتنبي في المواجهة، وهو من أثبت خلال أكثر من عقدين أنه لم يهتم إطلاقاً بامتلاك أية قيمة أخلاقية.

بطيب سريرةِ من لا يعلم بأن أية ثغرة في جدار الديكتاتورية، سوف تطيح بها وبنظامٍ بُني وتمت هندسة معماره على الجريمة، تحدّث يومها عدد من الكتاب في الصحف وطالبوا الأسد (باعتباره شابّاً حداثياً) بردِّ المظالم التي حدثت في عهد أبيه، خصوصاً جرائم الثمانينيات، حتى لا تنفجر أمامه، في تاريخٍ لاحق، الدمامل التي لم تنظّف وتُعالج (انفجرت جميعها في آذار 2011). وللإنصاف فإن مستشاريه الأمنيين عام 2000 كانوا أذكى من أن يدعوه يفعل ذلك. وكلام بعض المثقفين السوريين يومها، وكتابات أصحاب الأحلام الوردية عن قابليّات الرئيس الشاب، كانت لتبدو صحيحةً لو لم يكن النظام يمتلك تلك المورّثات البنيوية الإجرامية، التي رسخها الأب المؤسس للجرائم الكبرى في سوريا. نعم كانت لتغدو صحيحة لو كان الحديث عن أي نظام آخر في العالم، سوى نظام الأسد.