مؤونة غير متوقعة في سلّة غذاء سوريّة؟

2021.04.17 | 06:57 دمشق

salla-ghiza2iya-i3ashaa.jpg
+A
حجم الخط
-A

ردَّ عليه صوت أنثى، إنه الصوت القديم نفسه، صوتها لم يتغير، رخيم، عريض، جهير، يصدر من حلق شديد، واثق، مصبوغ بالحلاوة والعسل، صوتها يشبه صوت المذيعة فدوى باسيل.

عرّف بنفسه، فرحبت، وسألها إن كانت دلال، فردّتْ بالإيجاب، ذكّرها مرة ثانية باسمه وبلقبه الشهير، وسألها إن كانت تتذكر كوبال، فقالت: إنها لا تتذكره، فأخبرها أنه كان أخًا لصاحبتها شيرين، فتذكّرت شيرين، لكنها لم تتذكره، فسكت مهزومًا ومخذولًا، وأسفَ لأنها لم تتذكره، هل يُنسى حامي الظعينة؟

 كان قد طُعنَ من أجلها بالسكين، وكان هناك شابان من أسرة حاج شكرو يتحرشان بها في الشارع، فنهاهما، فلم يرتدعا، فخاصمهما، فتلاسنوا، فأخرج أحدهما سكينًا وطعنه بها طعنتين غادرتين. سألته عن حاله، فأخبرها أنه في ألمانيا، فحسدته، وسألته عن حال أخته، فأخبرها أنها بخير ولها ثلاث بنات وصبي، وهي في كندا، وأن أمه في سلطنة عمان، وقال لنفسه إن النساء تنسى، واسمهن من النسيان حقًا، وكاد أن يندم على الاتصال.

 لقد خُذل. هذه طعنة أشد من طعنتي ابني حاج شكرو.

وجد منها آذنًا صاغية، فتابع هاتفه، وحكى لها أنها لم تكن صبية مثل الصبايا، كانت جميلة، وتمثل في مسرح المدرسة، وكانت ممثلة لطيفة أيام الصبا، ولها جمهور عريض من طلاب المدارس، وكانت ذكية، وذكّرها بمسرحية الأم في قصيدة إبراهيم المنذر الشهيرة، وذكّرها بالقصيدة، وهي قصة منظومة، يطلب فيها غدار من فتى أن يأتيه بقلب أمه مقابل الجواهر والدرر، وتقول خاتمتها:

ناداه قلبُ الأمِّ: كُفَّ يدًا ولا تذبح فؤادي مــرتــيــن ِعلى الأثر.

 وهي المسرحية نفسها التي مثّلها غوار وحسني في مسلسل صح النوم الشهير، وكان زميلنا الفتى لوقو يمثل دور الابن، هل تذكرين لوقو؟ وكنت تمثلين دور الأم. وقال لها إنه تمنى لو مثّل دور الأب، ولم يكن في المسرحية أب.

وذكّرها بمسرحية كعب بن مامة، وكانت متنكرة بزي رجل، وتمثّل فيها دور الساقي الذي يصافن الماء بالحجارة، أي يقيس مقدار الماء

كانت تمثيلية مأساوية، لكن الأداء حوّلها إلى ملهاة، ضحك الجمهور طويلًا عندما تدحرج قلب الأم البلاستيكي من يد لوقو، وسقط من منصة المسرح، ووثب القلب المطاطي بين الجمهور، واشتعلت معركة بين الجمهور الذي أراد أن يحتفظ بقلب الأم ذكرى، تناقلوه مثل الكرة حتى صار في أقصى القاعة، حتى إنَّ الأم قامت من رقدة الموت، ورجت الجمهور أن يعيدوا قلبها قبل أن تموت، فعطفوا عليها وأعادوه، ونجحت العملية الجراحية، وتحولت المأساة إلى كوميديا.

 فضحكتْ، وسُرَّ لضحكتها القوية، فالصوت يظل شابًا، وقالت: كانت ذكريات جميلة جدًا.

 وذكّرها بمسرحية كعب بن مامة، وكانت متنكرة بزي رجل، وتمثّل فيها دور الساقي الذي يصافن الماء بالحجارة، أي يقيس مقدار الماء.

 قالت له ضاحكة: أتذكرها مثل سراب بعيد.

 تقول الأخبار إنَّ كعبًا خرج فِي ركب فيهم رجل من النمر فِي  شهر آب اللّهاب، فضلّوا وعطشوا، فتصافنوا مَاءَهُمْ، والتصافن أَن تطرح حَصَاة فِي الكأس، والتفت كَعْب، فأبصر النمري يحدق النّظر إِلَيْهِ فآثره بِمِائَه، وَقَالَ للساقي اسْقِ أَخَاك النمري، فَشرب النمري نصيب كَعْب ذَلِك الْيَوْم، ثمَّ نزلُوا استراحة أخرى، فتصافنوا بَقِيَّة مَائِهِمْ، وَنظر النميري إِلَى كَعْب، وكان قد أشرف على الهلاك عطشًا، وآثر صحبه بالماء، ثم ارتحل الْقَوْم، وَقَالُوا ارتحل يَا كَعْب، فَلم يكن بِهِ قُوَّة للنهوض، وَكَانُوا قد قربوا من المَاء، فَقيل لَهُ رِد يَا كَعْب إِنَّك وَارِد، يعني اشرب، فعجز عَن الْجَواب، ثمَّ فاضت نفسه.

وَقد أَكثر النَّاس التمثل بِهِ ومن أبدعه قَول العرب: وَمَا نَالَ كَعْب فِي السماحة كَعبه...

 سألها إن كان عنوانها هو شارع الديوان، ورقم المنزل 6، فقالت: إنّه هو لم يتغير.

وشكرته وودَّ لو يذكّرها بأنه طُعن من أجلها، ولم تزره في المشفى، وكان صبيان الحي مسلحين جميعًا، كنا أشرارًا مولاتي، كنّا فتوّاتٍ فتَّاكاً، وأنها خذلته وأنه أسف كثيرًا على تضحيته التي ذهبت هدرًا، "هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ" وكان يظن أنها ستموت حبًا فيه كما في الأفلام الهندية، وكان يمكن أن يموت، وأنَّه حزين لأنها لم تتذكره، وأن آثار الطعنتين ما تزال في بطنه، لكنه صمت، فلم يكن الضحية الوحيدة، فقد حوَّلت الحسناء نصف شباب المدرسة إلى عاهات دائمة، من الصراع عليها والفوز بودّها ووصالها.

سكتت ثم سألت: ما معنى عبارة: وَمَا نَالَ كَعْب فِي السماحة كَعبه؟

 فقلت: يعني تفوَّق على نفسه، كما نقول بلغة أيامنا.

 سألتْه كيف استدل على رقم هاتفها، فشكرها على السؤال الذي كان ينتظره، وقال إنه سعيد به كثيرًا، وأخبرها أنه رأى رؤيا مثل فلق الصبح، واستفاق، فكتب الرقم واتصل بها، فسكتت متعجبة وقالت: لن أقول لك أحلف، لأنَّ رقمي جديد، ولا أحد يعلم برقم هاتفي حتى بناتي.

 ودَّعها، واتصل من وراء البحار بشركة حاج شكرو في مسقط رأسه، "حج شكرو للديلفري وتوصيل الطلبات والبضائع، كان على الطرف الآخر أحد الفتيين اللذين طعناه، شركات الديلفري انتشرت بعد الحظر من وباء الكورونا، سأله إن قد أعدَّ ما اتفقا عليه، وصلت إليه الحوالة، فقال: إنَّه جهّز السلّة الغذائية ووصلت إلى عنوانها وإنَّ المرسل إليها اتصلت وسألت مستهدية برقم الشركة عن اسم المرسل، فقلنا لها: المرسل صديق قديم، رفض كشف اسمه.

 قال ابن الحاج شكرو: ألحّتْ وسألت عن اسم المرسل فقلت: معن بن زائدة.

 ابتسم، وشكره وأعجب بحيلته، إنه يتذكر مسرحية معن بن زائدة القديمة أيَّام الصبا.

 وضع الهاتف من يده، وكشف بطنه، وتلمس مكان الطعنتين المندملتين، واحتقر نفسه واستصغرها لأنه جلس ينتظر هاتفها شكرًا منها له على السلّة الغذائية، بعد ساعة وجد رسالة على الواتساب تقول:

شكرًا يا أستاذ كعب بن مامة.

ومعها قلب أحمر مشقوق من النصف بالسكين.