مأْسَسة الجالية السورية في هولندا وإشكاليات العمل الجماعي

2022.04.23 | 05:58 دمشق

thumbs_b_c_ef074fcd92af0b614685772d0c9fd86b.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تنجح محاولات إيجاد مجلس، أو رابطة للجالية السورية في هولندا حتى الآن، مع أن عدد أفراد الجالية يتجاوز المئة ألف، وقد وصلت سنوات وجود عدد كبير منهم إلى نحو عقد من الزمن، وفيها كفاءات علمية وفكرية واجتماعية وسياسية، وعلى الرغم من أن محاولات فردية عدة لإنشاء مجلس للجالية بدأت منذ عام 2016 إلا أنها كلها نكصت إلى الوراء، بل ولَّد بعضها اختلافات بين أعضاء الجالية أحياناً.

يعودُ السبب الرئيس في عدم نجاح مأْسسة الجالية إلى اعتياد كثير من السوريين على العمل الفردي، ذلك أن تربية النظام في سوريا كانت تقوم بصورة من صورها على تفريق المجتمعين والمتجمعين وزرع بذور الشقاق بينهم، أو بناء عدم الثقة، وكذلك عدم اعتياد كثيرين على العمل مع فريق. وفي الوقت نفسه كان كثير من القادمين الجدد منشغلين بشؤونهم الخاصة، وقد كفتهم الدولة معيشياً، وأمنت لهم الحماية قانونياً، وتمنع عنهم الأذى، وتساعدهم في تحصيل حقوقهم، دون أن تحمِلَهم عائلة أو مجموعة أو انتماء أقلويّ، إضافة إلى انتشار قيم الديمقراطية والحرية في المجتمع الهولندي الضامنة للمساواة.

ربما يرجع الأمر في جزء منه إلى حالة اليأس التي عاشها السوريون بعد فشل مطالبهم بالحرية في وطنهم الأم، وفقدان الأمل من الاشتغال في إطار العمل السياسي أو الاجتماعي، وكذلك إلى شعورهم بعدم أهمية وجود مجلس للجالية بالمفهوم اليومي، وليس بالمفهوم الاستراتيجي، إذ لم تستطع الأحداث التي مر بها سوريون هولنديون في المساهمة بولادة مجلس للجالية، ولم تبلور فريقاً يتجاوز اختلافاته، ويخصص وقتاً كافياً لتأسيس مجلس للجالية في هولندا.

اعتاد السوريون أن يعولوا كثيراً على الجهود التي تقودها الدولة الشمولية عادة، التي تحمل أدوات قوتها بنفسها، لكن مفهوم الدولة ومؤسساتها ومنظماتها بهولندا يختلف كلياً عن طريقة العمل ومفهوم المؤسسات في سوريا

سعت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل الهولندية بالتعاون مع "الجهات المختصة وبالتنسيق معها" إلى اختيار مجلس استشاري للجالية السورية، أسوة بما فعلته مع عدد من الجاليات ومنها الجالية الكردية مثلاً، عول بداية كثيرون عليه، لكن الأمل منه بدأ يقل، بعد مرور أكثر من سنة على إنشائه، ولم ير أعضاؤه، أو الآملون به خيراً، منتَجَاً له على الأرض بعد، لغرقه بمشاورات بيروقراطية، وتفاصيل يومية، وعدم وضوح أهدافه، وقد اعتاد السوريون أن يعولوا كثيراً على الجهود التي تقودها الدولة الشمولية عادة، التي تحمل أدوات قوتها بنفسها، لكن مفهوم الدولة ومؤسساتها ومنظماتها بهولندا يختلف كلياً عن طريقة العمل ومفهوم المؤسسات في سوريا، مما يجعل الفرق بين طموح الجالية من المجلس الاستشاري وآلية عمله متباعداً كثيراً؛ وهذا ما سرّع بانفضاض كثيرين عنه، أو الانسحاب منه بصمت، ورأى بعضهم أن الحكومة الهولندية من جهتها تريد القول: إن لدينا مجالس للجاليات فحسب! أما المتحمسون للمجلس فيرون أن السوريين يستعجلون النتائج وقطف الثمار!

ومن اللافت في الوقت نفسه أنّ السوريين في هولندا قد أنشؤوا عشرات منظمات المجتمع المدني والجمعيات، غير أن عدم الخبرة بإدارة شؤونها والجهد الكبير الذي تتطلبه، وعدم تبني معظمها من قبل الدولة؛ قد خيَّب آمال كثيرين منها، إضافة إلى أن تجربة العمل المنظماتي أو التطوعي تعدّ تجربة جديدة على السوريين، مما جعل المنظمات التي تحقق النجاح لا تتجاوز عدد أصابع اليدين أو أكثر بقليل، في حين اندثر كثير منها، نتيجة الشعور بعدم التقدير من البلديات الهولندية، ومن السوريين المستفيدين أنفسهم. وقد وُجِهَت الكثير من هذه المنظمات والقائمين عليها بعدم الثقة، أو طالت مجالس إدارتها اتهامات من مثل أنهم مخبرون للدولة الهولندية أو أن هدفهم أن يحصدوا أموالاً، وما درى كثير من المشككين مدى العذاب الذي ينال كثيرين نتيجة صعوبة تحصيل الرعاة في هولندا وبيروقراطية منظومة العمل في هولندا، وصعوبات العمل في بيئات جديدة!

تحاول تلك المنظمات أن تأخذ بيدي القادمين الجدد على مستوى المعلومة أو المساعدة، أو تعليم اللغة الهولندية أو العربية أو التعليم الديني أو دفن الموتى، أو شرح القوانين أو آليات التعامل مع الأطفال والعائلة والعلاقة بين الرجل والمرأة.

ومن اللافت والمفرح معاً أنَّ الجهود النسائية السورية قد تركت بصمتها في تلك المنظمات، ربما يعود الأمر في جانب منه إلى مساحة الأمان، وجو الحرية والديمقراطية، ورغبة المرأة السورية في إثبات ذاتها وترك بصمتها، وقد كانت المرأة مع الرجل في سوريا محرومين من العمل المدني المؤسساتي، وفي الوقت الذي انشغلت به نساء سوريات عديدات بالعمل المنظماتي في هولندا، انطلق عدد كبير من الرجال لإثبات أنفسهم في سوق العمل بعيداً عن الاعتماد على المساعدة الاجتماعية، متمّمين الدور الذي كان مناطاً بهم في سوريا، غير أن فئة الشباب من الجنسين أمرها مختلف، إذ إنها تحاول الغوص عميقاً في المجتمع الهولندي عبر الدراسة، بل أسس عدد من طلاب الجامعات من أصل سوري منظمة خاصة بهم اسمها "صلة". وهناك جهود أخرى للاجتماع السوري ارتبطت بمدينة ما أو طائفة ما كتجمع أهالي سلمية في هولندا أو أهالي السويداء أو السوريين السريان أو بعض العشائر في هولندا. وكذلك هناك جهود سياسية واجتماعية كردية، ذات منطلق قومي أو حزبي وليس سورياً.

تسهم الجالية السورية في هولندا اليوم، وفق إحصاءات غير رسمية في تحويلات مالية إلى الداخل السوري تتراوح بين خمسة إلى عشرة ملايين يورو شهرياً، غير أن هذه الجهود/المساعدات تقتصر على مساعدة الأهل أو الأقارب فحسب، ويبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن تحويل قسم منها إلى مؤسسات مساعدة وإغاثة عابرة لصلات القرابة، تركز على أنواع أخرى من المساعدة المرضية أو التعليمية أو الاجتماعية لسوريي الداخل؟ وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: ما مدى ضرورة وجود "داتا" للسوريين في هولندا، يمكن أن تكون نواة للعمل المشترك، وما مدى الحاجة لمركز إعلامي أو إخباري أو بحثي يمكن أن يكون منطلقاً لعمل مستقبلي؟

والسؤال الرئيس: لماذا لم تنجح محاولات تمثيل الجالية السورية في هولندا ومعظم الدول الأوروبية حتى اليوم؟ وإلى أي مدى تصح المقولة التالية: السوريون متميزون في العمل الفردي، غير ناجحين في العمل الجماعي؟

القياس على تجارب الجاليات الأخرى والمقارنة معها مثل المغربية والتركية في هولندا يكشف أن الدولة الأم تقوم بدور ما في سبيل إفراز مجلس للجالية يرتبط بالسفارة أو الوزارات المختصة في البلد الأم بعدد من الجوانب، وهذا لا يصح مقارنته مع الجالية السورية التي لا تتعامل مع النظام المشطوب من التعاون الدولي، وهو الذي تسبب بلجوئهم وخروجهم من وطنهم وقتل أهلهم وتهديم بيوتهم.

  من سيقوم بهذه المهمة إذاً؟

الائتلاف، بما أنه الصيغة السورية الأبرز المعترف عليها دولياً حتى اللحظة، بصفتها جهة معارضة؟ خاصة أن جهات التمثيل السورية الأخرى وجدت لتكون مهتمة بالداخل السوري فحسب مثل قسد ومجالسها، والحكومة المؤقتة أو سواها، إذ لا يهتم المجتمع الدولي بالسوريين اللاجئين بصفتهم سوريين، بل بصفتهم مواطنين أو لاجئين على طريق المواطنة في الدول الجديدة.

مشكلة الائتلاف الرئيسية هي أنه لم يتوجه مرة إلى الشعب السوري اللاجئ أو سواه، لمشاركته بالصعوبات أو القرارات، بل تشغله الخطابات والتنسيق مع الدول وأجهزتها

أنيط بالائتلاف منذ تكوينه أدوار، أكبر من حجمه وقدراته بكثير، ولكن بما أنه لا مؤسسة سورية سواه معترف بها دولياً، فإن السوريين يضعونه في "فم المدفع" كل مرة، ويفوتنا أن حجم العمل المطلوب منه يحتاج إلى مؤسسات دولة، وليس إلى مجموعة أشخاص، يديرون عملهم عبر بناء مستأجر، وميزانية تقدمها دول، يغدو الحصول عليها أقرب إلى "الشحاذة" الدورية، تشغلهم فرص بقائهم في الانتخابات القادمة.

لعل مشكلة الائتلاف الرئيسية هي أنه لم يتوجه مرة إلى الشعب السوري اللاجئ أو سواه، لمشاركته بالصعوبات أو القرارات، بل تشغله الخطابات والتنسيق مع الدول وأجهزتها، ظناً منه أنها ستحمله إلى أضغاث أحلام الحكم في سوريا والانتقال السياسي، وينسى مواطنيه الذين لا يعرفون آلية القرار فيه، ويبدو أن ما يأملونه منه هو غير المراد منه وفقاً لمؤسسيه أو داعميه.

من جانب آخر: إنَّ إعطاء أدوار سحرية للائتلاف وسواه من قبل سوريين كثيرين هو جزء من محاولة إعفاء أنفسنا من العمل المدني أو التطوعي، وقد أثبتت الأيام أن ما يحتاجه السوريون اليوم هو هيئة مدنية تطوعية لها فلسفتها، وآليات عملها، أو لنقل "لوبي سوري" يحرض السوريين في بلاد اللجوء لكي يكونوا مؤثرين في مؤسسات بلدانهم الجديدة، لأن انتظار "غودو" الائتلاف أو سواه من المؤسسات السياسية التقليدية يشبه انتظار حبيب مر هنا يوماً، ولا يجيد الالتفات إلى الوراء، فمن سيؤسِّس هذا اللوبي ليكون نواة لعمل مدني سوري؟ الإعلاميون أم المفكرون أم الباحثون أم مراكز الأبحاث أم نداء الانتماء إلى سوريا؟