مأزق مناهج الإدارة الذاتية

2020.08.01 | 00:11 دمشق

unnamed.png
+A
حجم الخط
-A

أنهت الإدارة الذاتية أيّ تطبيق للمناهج التربوية السورية في مناطق سيطرتها، باستثناء مناطق وجود النظام كالمربعات الأمنية، حيّ طيّ ذي الغالبية العربية، المطار، والمدارس الخاصة الخاضعة لقرارات الكنيسة.

إنهاءٌ لا يُزعج نجاحه سوى محددين، أولهما: رفض النظام لأي تسوية لتلك المناهج في كل لقاءٍ جمع الطرفين، وعدم إيجاد حلول للطلاب المنخرطين ضمن تلك المناهج، إلا بما يتناسب والمزاج العام لوزارة التربية السورية، والثاني: استمرار القطيعة بين أعداد ضخمة من الطلبة الكُرد وهذه المناهج. يقابل ذلك فرز واقع الطلبة الكُرد الواصلين إلى الشهادة الثانوية العامة، إلى قسمين، الأول: لا يجيد التحدث أو الكتابة باللغة العربية وإن لم يكن بالمطلق، لكن ثمة فصل عميق بينه وبين المحيط العربي الذي يعيش الكُرد متجاورين معه، والثاني: لا يجيد الكتابة والقراءة باللغة الكُردية، على الأقل لم يحصل على فرصة ساعة واحدة أسبوعياً ضمن مناهج الدولة السورية. ما يُعتبر مؤشراً على خطورة تباعد جيل واحد، قُسم إلى شطرين متعاكسين متباعدين، مع ملاحظة أن النسبة المرتفعة لدى مدارس النظام لا يُمكن مقارنتها أو قياسها بنظيرتها لدى الإدارة الذاتية من حيث عدد الطلاب، ونوعية الكادر التدريسي والإداري.

حيث تتحكم الإدارة الذاتية بالعملية التربوية والتعليمية عبر لجان بمثابة مجموعات عمل تنفيذية للفكرة السياسية والإيديولوجية المراد تعميمها في المناهج وهي، أولها: لجنة كتابة المناهج الخاضعة لفكرة سياسية وربما تقوم بتجميع الأفكار والمواد من أماكن لا يتم التطرق إليها، حيث يُدون في خانة التعريف بمؤلف الكتاب المدرسي، عبارات لا توضح من ألف الكتاب مثل: إعداد الكتاب من قبل لجنة الإعداد، المراجعة والتدقيق: لجنة المراجعة والتدقيق، وهو يعني أن الطالب يقرأ ويدرس من كتاب مدرسي مجهول المصدر والمؤلف. اللجنة الثانية وهي خاصة باللغة الكُردية: شرط إشراك أيّ مدرس بكتابة المناهج باللغة الكُردية، أو تدريسها يخضع لشرط الخضوع لسلسلة دورات باللغة الكُردية حصراً ضمن "مؤسسة اللغة الكُردية"، وهي خاضعة لقرارات الاتحاد الديمقراطي مباشرةً، بمعنى أدق، فإن ذلك المعهد يعتبر بمثابة ضاغط ومتحكم بمسار التوظيف والعمل والتأليف و...إلخ،. واللجنة الثالثة: الإشراف على تنفيذ قرارات هيئة التربية، وهي بالضبط نسخة طبق الأصل عن مُصدري القرارات، ويتوسع عملها حالياً ليشمل مراقبة منع أيَّ دورات لمناهج الدولة السورية سواء في المعاهد أو حتّى في المنازل الخاصة بمالكيها، ومؤخراً تم منع عمل المعاهد الخاصة التي تدرس مناهج الدولة السورية، ما يعني حصر العملية التربوية بهم وحدهم.

أعمق مشكلة لهذه المناهج تتجسد بربط مصيرها، بالحالة العسكرية، فزوال سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عن أيَّ منطقة يعني ضياع وضبابية مستقبل طلبة تلك الجغرافية، ولا تستقبلهم مدارس الدولة السورية دون شرط العودة إلى الصف الذي ترك فيه الطالب والتحق بمدارس الإدارة الذاتية، حيث سبق وأن أشترط على مجموعة من الطلبة رغبوا بالعودة إلى مدرستهم السابقة، العودة للصف الرابع الابتدائي، حين تركوا مدارس الحكومة السورية، بعد أن وصلوا للصف العاشر/الأول الثانوي/لدى الإدارة الذاتية.

في المقابل فإن الخطط التعليمية تفترض أربعة شروط رئيسية للعملية التربوية الناجحة، الأولى: عدّم التداخل في العملية التربوية بين الجهات الحاكمة، ففي حالة مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، فإن الانقسام شمل، المدارس، المناهج، الكادر التدريسي، القرار التربوي، ما بين هيئة التربية ومؤسسة اللغة الكُردية، وما بين مديرية التربية في الحسكة ووزارة التربية السورية.

الثانية: تعود مجدداً قضية الكادر غير الكفء، وكنتيجة لعزوف المدرسين الكفوئين وأصحاب الخبرة والقِدم الوظيفي عن الالتحاق بمدارس الإدارة الذاتية، تم الاستعاضة عنهم بطلبة الجامعات، وشهادتي البكالوريا والتعليم الأساسي /الكفاءة الإعدادية/ عبر إخضاعهم لسلسلة من الدورات التدريبية لمدّة ثلاث أشهر! وعلى مدار أشهر الصيف منذ تطبيق تلك المناهج. كما أن الولاء الإيديولوجي دون الاهتمام بمعيار الكفاءة والخبرة والشهادة، شكل أحد الركائز الأساسية خاصة في الدفعات الأولى لتعيين "المدرسين". والمعروف أن العملية التعليمية متكاملة الأركان فعدم حمل الكادر للمعارف والخبرة يكون جزءاً رئيسياً من سوء أداء وظيفة العملية التربوية وهيئة ومؤسسة التربية برمتها.

الثالث: الكادر التربوي والتدريسي القائم على إعداد المناهج: في حالة هذه المناهج، فإن التعيين يخضع لحجم الالتزام بالقرارات السياسية. علماً أن الأصول في تنفيذ تغييرات على المناهج المدرسية يتم وفق خطين مترابطين/ مُعدي المناهج، وآلية التغيير/ والطريقة المثلى للتغيير تقوم على تغيير منهاج الصف الأول في كل مرحلة تعليمية، فالتراكم المعرفي للمناهج وخطة التغيير لا يمكن لها أن تكون بقفزات ضخمة، بل بخطة مدروسة وفق معايير التقييم العالمي القائمة على تغيير المنهاج خطوة بخطوة، وفق التقسيم المرحلي لسنوات الدراسة. مثال: الخطة النموذجية لتغيير المناهج هي تغييرها في الصف الأول الابتدائي، والرابع في الحلقة الثانية، والسابع- الأول الإعدادي، والعاشر-الأول الثانوي في نفس العام، ثم في العام الذي يليه يتم تغيير المنهاج للصفوف التي تليها ثاني الابتدائي، خامس –حلقة ثانية، ثامن، الحادي عشر-ثاني ثانوي، ثم في العام الذي يليه يتم تغييره للصفوف الثالث الابتدائي، السادس-حلقة ثانية، التاسع-كفاءة، الثالث الثانوي-البكلوريا. بحيث أن الطالب لا يشعر باغترابه عن المنهاج، ويتأقلم مع التغيرات، ولا يلقى أيَّ صعوبة في تلقف المعلومة، وهكذا يتأقلم الطالب مع التغيرات ويحصل طلبة الصف الأول للمرحلة الابتدائية، والإعدادية والثانوية على منهاج جديد بالكامل بشكل متتالي حتى الانتهاء من الدراسة، والهدف كون التعليم عملية تراكمية تراكبية متتالية، وبشكل أدق أن تغيير المناهج يخضع للتراكم المعرفي ونسق تغييري متوازن ومترابط، وتختلف تسميات كل مرحلة تعليمية من دولة إلى أخرى. وهو ليس المفقود لدى الإدارة الذاتية فحسب، إنما المكروه أيضاً، بحجة أنهم يأتون بفكرٍ جديد!!

رابعاً: التزام الأهالي بإرسال أبنائهم للمدارس. ومع اكتظاظ المدارس الخاضعة لسيطرة النظام، مقارنة بقلة عدد الطلاب في مدارس الإدارة الذاتية، فإن مؤشر قبول الأهالي إرسال أبنائهم لمناهج تدرس أفكار البعث ورفضهم لمناهج خاصة بالإدارة الذاتية وحزبها الحاكم، تشرح هشاشة الارتباط العضوي بينهم وبين الإدارة الذاتية كسلطة حاكمة. حيث يزيد عدد الطلاب في الصف الواحد عن /60-70/ طالباً، وبنظام دوامين في اليوم، في حين لا يتجاوز عدد الطلاب في صفوف مدارس الإدارة الذاتية عن /20-25/طالباً وبنظام دوام واحد فقط، وهو يعود لسببين مترابطين، الأول فقدان مستقبل خريجي تلك المناهج لربطها باستدامة مشاريع سياسية عسكرية، والثاني عدّم الحصول على الرضى الشعبي لترسيخ مفاهيم حزبية بطرق متعددة.

بعد كل هذا الكم الرهيب من التراكم والضرر الذي ألحق بالعملية التربوية، خاصة وأن المقياس الكمي لحجم الضرر لا يُقاس بعدد سنوات المنهاج المُطبقة، بل بالخط البياني لعدد الطلبة الموجودين ضمن صفوف ومدارس أيّ من الطرفين منذ2011 إلى اللحظة، وأهلية المدرسين والتحصيل العلمي، ونسبة هجرة مدرسي الاختصاص، وحجم المعارف والقيم المكتسبة أو الضائعة، فالضرر يتوزع بأسبابه ما بين هجرة الكفاءات ونتائج مناهج الإدارة الذاتية، فإن الصعوبات لا يحلها أي مجهود فردي، خاصة وأن جزر الخلاف الفكري بين الإدارة الذاتية والأهالي هو نظرتهم للمناهج الموزعة بين من يتخذون من التربية وسيلة لتلقين عقائد محددة معينة بالذات ولا يجوز أن تُناقش، وبين الذين يرون أن التربية يجب أن تغرس في المتعلم القيم الإنسانية والأخلاق والانتماء للأرض وإنه من العته الخوض في هذه المسائل.

أعمق مشكلة لهذه المناهج تتجسد بربط مصيرها، بالحالة العسكرية، فزوال سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عن أيَّ منطقة يعني ضياع وضبابية مستقبل طلبة تلك الجغرافية

ثمة نقطة تحسب للإدارة الذاتية، إنها خرجت أجيالاً متسلحة باللغة الكُردية كتابة وقراءة، وعلى أهميتها وضرورتها ولزوميها كأبرز حوامل الهويّة الكُردية، وترسيخ الفكر القومي الكُردي، والمقصود هنا هو اللغة الكُردية بالمفهوم السياسي، وليس الفعل المؤدي إلى تعليمها؛ لما رافق سير العملية التربوية من سياسات ومواقف حزبية تُبدي العكس من ذلك. لكنها –تعليم اللغة الكُردية- ليست اللحظة الحاسمة في تفكير وقناعات ذوي الطلبة، والمعضلة هي عدم تمكن هذه الإيجابية من توفير مساحة كافية لخلق الطمأنينة لدى الأهالي حول مستقبل أبنائهم، بمقدار البحث عن تعليم راسخ يؤدي إلى تحصيل علمي عالٍ وفرص عمل ونجاح مستقبلي. بالمقابل فإن فرض أفكار ورؤى سياسية على طلبة المكون العربي في مناطق عربية صرفة، قبل أيَّ توافقٍ سياسي، من شأنه تأجيج التوترات المحلية أكثر. ومع افتتاح كليات متعددة ضمن جامعة مجانية في المنطقة، إلا أن حجم الضرر لا يقارن بالفوائد، فهي بالحد الأدنى تحصر المتخرج من جامعات ومدارس الإدارة الذاتية بالبحث عن فرصة عمل ضمن نطاق سيطرتها فحسب، وزوال هذه السيطرة يعني انتهاء مستقبل هؤلاء، وتحرم الطلبة من الوصول إلى الجامعات السورية...إلخ

حالياً، وأسوة بكل شيء آخر، يقف ذوو الطلبة على مفترق طرق، ما بين نسف هذه المناهج وضياع مستقبل بضعة آلاف من الطلبة، وهو ما سيعني خلق جيل عاطل عن العمل متسلح بثقافة العمل العضلي فحسب، وبعيد عن حلم الشهادة الجامعية والدراسات العليا، أو إيجاد حل جزري على مرحلتين أو أكثر، وإنقاذ أكبر قدر ممكن. ومع تكرار الإدارة الأميركية لاستراتيجيتها التي لم تحدد أو تشترط رحيل النظام، ومع عدم بلورة مستقبل واضح لقسد، مسد، الإدارة الذاتية، فلماذا تصر الأخيرة على الزج بورقة مصير ومستقبل الطلاب في المواجهات والابتزازات السياسية؟

رُبما الأمل الوحيد المتبقي لذوي التلاميذ يكمن في مخرجات الحوار الكُردي-الكُردي، على أمل إيجاد منفذ لهذه المشكلة، والذي يبدو أنه سيأخذ وقتاً كافياً، إلى ذلك الحين فإن حلولاً إسعافية إجرائية تتطلب التطبيق، ويُمكن تقسيمها إلى مرحلتين الأولى: إفساح المجال أمام طلبة مناهج النظام بدخول مدارسهم في مناطق وجودهم، خاصة وأن من تدرج في صفوف مدارس الإدارة الذاتية لن يتمكن من العودة لمدارس النظام، ومن وصل للمرحلة الثانوية على سبيل المثال، لن يتمكن من الالتحاق بمناهج الإدارة الذاتية لصعوبة التأقلم والفهم. فاستمرار طلبة مناهج النظام من دخول المدارس الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، سيعني لِزاماً التوجه صوب المربعات الأمنية أو حيّ طيّ، وهم بغالبيتهم العظمى من المكون الكُردي، ووفق ما يترتب عليه من أعباء مالية إضافية، ومخاطر عديدة ليس أقلها، إن حالة الاحتقان بين أهالي حي طي ذي الغالبية العربية والإدارة الذاتية بكل مؤسساتها، ومع توجه أعداد ضخمة من الطلبة الكُرد إلى المدارس في تلك المناطق قد يشكل حقل ألغام خطيراً، المجتمع برمته بغنىً عنه، وإن لم يسبق تسجيل حوادث سابقة، لكن تطور الأحداث والمشاريع، قد يوغل في حالة الاحتقان.

ثم تالياً وكمرحلة لاحقة تشكيل لجنة من التربويين ذوي الكفاءة والاختصاص لفلترة هذه المناهج، وإن كانت كمرحلة مستقبلية، لأن المناهج الراسخة تحتاج إلى مشروع وتوافق وطني عام، مع التأكيد على أحقية ولزومية جعل اللغة الكُردية، لغةً رسمية في البلاد، وتدريس التاريخ الكُردي ضمن المناهج المدرسية والجامعية.

ولو تنازلت الإدارة الذاتية عن برجها العاجي، وبحثت عن جواباً لسؤال يكبر في كل لحظة، حول سبب عزوف الكفاءات وأصحاب الشهادات والخبرات من العمل ضمن صفوف مؤسساتها، والتعليمية بشكل خاص، مع الفارق الضخم بين رواتبهم ورواتب الحكومة السورية، لربما عثرت على العديد من الحلول للمشكلات التي تنتظر الكُرد أكثر من غيرهم في المستقبل القريب، خاصة وأنه لأول مرة تتحول اللغة الأم إلى عامل تأزم مجتمعي وتفرقة حتّى ضمن البيت الواحد، عوضاً أن تكون عامل تلاحم وتقارب وتشبيك قومي.