مآلات الانتقال السياسي في السودان بعد انفراد المكوّن العسكري بالسلطة

2021.11.10 | 12:07 دمشق

h_55408105.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرّ نحو أسبوعين على الانقلاب الذي أطاح بموجبه، العسكريون في مجلس السيادة السوداني، الحكومة المدنية التي تشكّلت بعد توقيع اتفاقية اقتسام السلطة وإدارة المرحلة الانتقالية، في آب/ أغسطس 2019. ولا تزال الأزمة السياسية تراوح مكانها، في ظل إصرار العسكريين على التمسك بالسلطات الفعلية، واستمرار تقييد حركة رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك، بينما تستمر التحركات الشعبية الرافضة للانقلاب وتتزايد الضغوط الخارجية للعودة إلى اتفاقية الشراكة وإعادة تنصيب الحكومة المدنية.

انفراد العسكر بالحكم

بدأت الفترة الانتقالية في جوٍّ ساده انعدام الثقة بين المكونَين المدني والعسكري، اللذَين شكّلا التحالف الذي قامت عليه حكومة الثورة التي تولّت مقاليد السلطة بعد إطاحة نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير. وقد عكست المبادرات الداخلية والخارجية التي اضطلعت بالوساطة، في المدة التي تلت إطاحة البشير، بوضوح حالة عدم الثقة بين الجانبين. وما أسهم في تنامي هذه الحالة أنّ المكون العسكري، بشقّيه القوات المسلحة والدعم السريع، بدا أكثر تماسكًا وأشد رغبةً في التمسك بالسلطة مما كان متوقّعًا، بينما استمر المكوّن المدني معوّلًا على الشارع الذي ظل مرابطًا في الطرقات حتى توقيع الوثيقة الدستورية.

وقد أدت عوامل مختلفة إلى تكريس قوة المكوّن العسكري في التحالف الحاكم؛ منها أنّ القوى المؤلّفة للمكوّن المدني انقسمت بانسحاب عدد من الأحزاب، وانقسم تجمّع المهنيين الذي أدّى دورًا رئيسًا في الثورة، أجنحةً مختلفة، وتمدَّد المكوّن العسكري من خلال اضطلاعه بمهمات من اختصاص مجلس الوزراء، مثل مبادرة التطبيع مع إسرائيل، وإقامة علاقات إقليمية مع قوى ودول مناهضة للديمقراطية، وقيادة التفاوض مع الحركات المسلّحة، والاستئثار بالعلاقات الخارجية المتصلة بالشؤون العسكرية، والمأسسة التي مرّت بها قوات الدعم السريع.

بناء عليه، استغل العسكريون الأزمة التي أعقبت تمرّدَ لواء في سلاح المدرعات في أيلول/ سبتمبر 2021، ونفّذوا انقلابًا أطاح شركاءَهم المدنيين في السلطة. وفي الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، اعتقلت وحدات من القوات المسلحة نحو 300 شخصًا من المدنيين الذين شغلوا مناصب حكومية وسياسية رفيعة، وأعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان في بيانٍ، حالة الطوارئ، وحلّ مجلسَي الوزراء والسيادة، وتشكيل مجلس وزراء من كفاءات، وتعطيل العمل بمواد من الوثيقة الدستورية، هي المواد 11 و 12 و 15 و16، التي تشير إلى تشكيل مجلسَي السيادة والوزراء واختصاصاتهما، وتشير المادة 24/3 إلى المحاصصة السياسية في تكوين المجلس التشريعي حيث أعطت قوى إعلان الحرية والتغيير 67 في المئة من عضوية المجلس، وتشير المادة 71 إلى أنّ الوثيقة الدستورية استمدت أحكامها من الاتفاق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، وتشير المادة 72 إلى حلّ المجلس العسكري. وأعلن البرهان كذلك عن تجميد عمل لجنة إزالة التمكين ومراجعة عملها، وهي اللجنة الخاصة بتفكيك شبكات نظام الحكم السابق، وتشكيل المؤسسات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، وهي: المجلس التشريعي، والمحكمة الدستورية، ومجلس القضاء الأعلى، ومجلس النيابة الأعلى ومفوضية الانتخابات العامة، وتنظيم الانتخابات العامة في تموز/ يوليو 2023. ولوحظ أنّ الاعتقالات جرت وفق نمط محدد؛ بحيث إنها لم تشمل أيّ عضو في حزب الأمة القومي، باستثناء، عروة الصادق، عضو لجنة إزالة التمكين، ما يعني أنّ هدف قيادة المؤسسة العسكرية كان توجيه ضربة للأحزاب الأصغر في التحالف الحاكم، ومحاولة تحييد حزب الأمة القومي تجاه التحرّك الانقلابي.

مواقف القوى السياسية من الانقلاب

عبّر المجلس المركزي لقوى إعلان الحرية والتغيير عن رفضه القاطع للانقلاب العسكري وما تمخّض عنه من إجراءات. وفي بيان صدر بعد اجتماع عُقد في دار حزب الأمة القومي، أعلن المجلس رفضه ما قام به البرهان، وطالب بعودة المؤسسات التي جرى حلّها، وإطلاق سراح المعتقلين، ومحاكمة الانقلابيين. وعبّر تجمّع المهنيين (جناح الأصم) عن رفضه الانقلاب وعن أمله في عودة التجمّع موحّدًا، وأعلن العصيان المدني. أما قوى الحرية والتغيير، مجموعة الميثاق الوطني، فقد أعلنت دعمها ما قام به البرهان. وأعلن الحزب الشيوعي الذي انسحب من قوى الحرية والتغيير، رفضه الانقلاب ودعا إلى مقاومته. وقد صرّح القيادي في الحزب، كمال كرار، أنّ عودة الشراكة السابقة بين المكونَين العسكري والمدني ليست حلًا للأزمة الراهنة؛ فتلك الشراكة باتت غير ذات جدوى.

وجاء حراك الشارع المتمثل بخروج آلاف السودانيين، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر، تعبيرًا عن رفض قطاعاتٍ واسعة من السودانيين انقلاب البرهان. وقد شمل هذا الحراك إغلاق طرق ومرافق مختلفة. ورغم أنّ حراك الشارع يُعدّ أداة ضغط مهمة للعودة إلى مسار الانتقال الديمقراطي، فإنّ نجاحه في تحقيق نتائج يعتمد على ديمومته وعمقه، خصوصًا في ظل أوضاع اقتصادية متردّية تعانيها شرائح كبيرة من السودانيين، ما يجعل من العسير عليهم ترك سبل كسب عيشهم والتجاوب مع العصيان المدني المفتوح، والمشاركة المستمرة في الاحتجاجات التي دعت إليها القوى الرافضة الانقلاب. من هنا تبرز أهمية الضغوطات الخارجية، باعتبارها عاملًا حاسمًا في دعم الحراك المدني والدفع إلى العودة إلى اتفاق الشراكة.

مواقف القوى الخارجية

تجاوبت القوى الخارجية بسرعة مع الأزمة السودانية، وعبّرت عن مواقف جاءت في جلّها رافضة الانقلاب وداعمة العودة إلى مسار الانتقال الديمقراطي. وكانت أبرز المواقف في هذا الاتجاه مواقف الترويكا (الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، والنرويج)، التي تمثّل الدول الغربية الأشد اهتمامًا بالسودان والأكثر انخراطًا في الشأن السياسي السوداني، وانعكس ذلك في رعايتها مفاوضات السلام التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل في عام 2005. وقد أصدرت هذه الدول بيانًا عبّرت فيه عن "دعمها القويّ لعملية الانتقال الديمقراطي للسودان، ورفضها أيّ محاولة لعرقلة أو تعطيل جهود الشعب السوداني لإنشاء مستقبل ديمقراطي وسلمي ومزدهر". كما حثّت المكونَين المدني والعسكري، وجميع الفاعلين السياسيين، على العمل معًا "لمنع التهديدات التي تواجه الانتقال الديمقراطي، وإنشاء مؤسسات انتقالية، ومعالجة التوترات في الشرق والمناطق الأخرى".

أما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقد نجح أخيرًا في إصدار بيان أعدّت مسودته بريطانيا، وتدخّلت روسيا لتخفّف من حدة عباراته، بعد أن فشل ثلاث مرات في اعتماد بيان موحّد، بسبب تباين الآراء بين أعضائه ومعارضة روسيا والصين إدانة الانقلاب. وقد دعا هذا البيان التوافقي السلطات العسكرية السودانية إلى إعادة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية على أساس الوثيقة الدستورية وغيرها من الوثائق التأسيسية للمرحلة الانتقالية، والانخراط في حوار من غير شروط مسبقة. أما مجلس السلم والأمن الأفريقي فقد قرر تعليق مشاركة السودان في جميع النشاطات إلى حين عودة الحكومة المدنية، وأرسل مبعوثًا إلى السودان للتوسط في حلّ الأزمة.

وقد تمكنت الولايات المتحدة وبريطانيا من إقناع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، اللتين يُنظر إليهما باعتبارهما من أبرز داعمي المكوّن العسكري ورافضي مسارات الانتقال الديمقراطي، بالمشاركة في إصدار بيان رباعي جاء فيه: "إننا نؤيد قلق المجتمع الدولي البالغ إزاء الوضع في السودان. وندعو إلى الاستعادة الكاملة والفورية للحكومة والمؤسسات الانتقالية بقيادة مدنية. وندعو جميع الأطراف إلى التعاون والوحدة من أجل الوصول إلى هذا الهدف. ونشجع على الإفراج عن جميع المعتقلين على خلفية الأحداث الأخيرة ورفع حالة الطوارئ".

على المستوى الإقليمي، برزت مصر باعتبارها الداعم الأبرز للخطوات التي أقدم عليها المكوّن العسكري، وقد ارتبطت بعلاقات قوية به منذ إطاحة البشير، لأسباب سياسية وأمنية. وقد عملت مصر على مساندة موقف البرهان في الاتحاد الأفريقي عبر تكوين تحالف يضم دولًا أفريقية، لدعمه. أما إسرائيل، وبعد أن أصبح السودان جزءًا من مشروع اتفاقات أبراهام، فقد أرسلت وفدًا أمنيًا إلى الخرطوم بعد أيام من وقوع الانقلاب، التقى بقائد الجيش الفريق أول البرهان، وبرئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك. وقال مصدر إسرائيلي إن الزيارة لم يكن هدفها التوسط بل الاطّلاع والوقوف على تطورات الأوضاع في السودان.

وساطات الداخل والخارج

تتضافر جهود لجان عديدة داخلية وخارجية من أجل التوسّط بين الجانبين. وتعدّ المجموعة التي يشارك في تحرّكها السياسي والصحافي المعروف، محجوب محمد صالح، أبرز مجموعات الوساطة الداخلية. وتعمل هذه المجموعة التي التقت أطراف الأزمة على تسهيل عودة المؤسسات المدنية، بترتيب جديد، واستمرار الشراكة بين المدنيين والعسكريين. أما على مستوى الوساطة الخارجية فتبرز تحرّكات المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، ومبادرة جنوب السودان، بقيادة ضيو مضوك الذي قام بدور الوسيط في مفاوضات السلام في جوبا، إضافة إلى الوساطة التي يقوم بها الاتحاد الأفريقي، ويسعى هؤلاء جميعًا إلى استعادة دور المؤسسات المدنية في الحكم على نحو جديد، ويبدو أن العسكريين يرمون إلى ذلك أيضًا.

وتفيد تقديرات عديدة أنّ الفريق أول البرهان لا يهدف من خلال فض الشراكة مع المدنيين والانقلاب على الحاضنة السياسية، المجلس المركزي للحرية والتغيير، إلى الاستمرار في الحكم على نحو مباشر، على عادة الانقلابات العسكرية السابقة في السودان، بل يرمي إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي، في ما تبقّى من الفترة الانتقالية؛ وذلك بإقصاء مجموعة المجلس المركزي للحرية والتغيير من السلطة، وقيام مجلس وزراء مدني جديد لا يشمل سياسيين، يكون بمنزلة واجهة تحكم مِن ورائها المؤسسة العسكرية من دون أن تتحمل المسؤولية، ما يحوّلها إلى حاكم فعلي من وراء ستار، تتدخل عند الضرورة؛ فقيادة المؤسسة العسكرية السودانية تدرك حجم التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها البلاد، وهي غير قادرة على التعامل معها، وتحمّل مسؤولية مواجهتها أمام الشعب. فضلًا عن ذلك، يدرك الجيش أنّ بقاءه في واجهة الحكم سيضعه في مواجهة مستمرة مع الشارع ويعرّض السودان لعقوبات دولية، ويعرقل تنفيذ الإنجازات التي تحققت خارجيًا في عهد حكومة حمدوك، على صعيد رفع العقوبات، والإعفاء من الديون، والحصول على مساعداتٍ وقروض من جهات مالية دولية.

وتستند القوات المسلحة في هذا التوجه إلى حقيقة أنّها تبقى اللاعب الأقوى في البلاد، بفضل تجانسها نسبيًا مقارنةً بالمكوّن المدني، يساعدها في ذلك الطبيعة التنظيمية للمؤسسة وإدراكها دورها المهني والسياسي. لكن لا ينبغي المبالغة بشأن هذا المعطى؛ إذ تواجه القوات المسلحة هي الأخرى تحديات داخلية تتمثل بسخط شريحة من الضباط بسبب أوضاعهم المعيشية، وما يرونه تقليلًا من شأن المؤسسة يقوم به بعض السياسيين. وقد انعكس هذا السخط في التحرك الاحتجاجي الذي قام به لواء المدرعات في منطقة الشجرة جنوب الخرطوم، أو ما سمّي محاولة الانقلاب الفاشلة، الذي قاده العميد بكراوي في 21 أيلول/ سبتمبر 2021. وقد تواصل التعبير عن هذا الاحتجاج في لقاءات الفريق أول البرهان مع كبار ضباط القوات المسلحة، في أكاديمية نميري العسكرية العليا، ويشير ما رشح من هذا اللقاء إلى أنّ عددًا من الضباط عبّروا عن عدم رضاهم عن أوضاعهم وعن دور المؤسسة العسكرية.

خاتمة

من الصعب الحسم بشأن الاتجاه الذي ستسلكه الأزمة السودانية خلال الفترة القريبة القادمة، بسبب وجود متغيرات عديدة داخلية وخارجية، لكن يمكن في المجمل القول إن سيناريوهات تطور الأزمة في المرحلة الراهنة لن تخرج عن سيناريوهين، هما: الأول، وهو الذي تعوّل عليه المؤسسة العسكرية، يتمثل بقبول رئيس الوزراء المعزول عبدالله حمدوك تشكيل حكومة جديدة من كفاءات غير حزبية. وسيخفف هذا، إذا حدث، الاستقطاب القائم حاليًا، لكنه قد يؤدي إلى انقسام داخل المجلس المركزي للحرية والتغيير، ويصاحب هذا الإجراء إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، لتخفيف الاحتقان واستئناف مسار الانتقال المتفق عليه. ويتمثل السيناريو الثاني برفض حمدوك تشكيل الحكومة الجديدة، بمعزلٍ عن القوى السياسية الرئيسة في البلاد. ومن المتوقع في هذه الحالة أن يتم تكليف شخصية جديدة غير مرتبطة تنظيميًا بتوجه سياسي. ويتولى رئيس الوزراء الجديد تشكيل حكومة كفاءات. وسيضاعف هذا السيناريو، في حال تنفيذه، الاستقطاب السياسي وحالة الاحتقان، بينما يحاول العسكريون فرض معادلة شارع مقابل شارع التي فرضتها الانقلابات على المسار الديمقراطي في دولٍ عربية أخرى، ما يعرّض مستقبل البلاد لمخاطرَ سياسية وأمنية جسيمة. وسيعتمد رجحان أحد هذين الاحتمالين على نتاج التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية، وعلى قدرة الوسطاء على تحقيق تسوية تمنع انزلاق البلاد نحو أزمة سياسية عميقة وطويلة.

كلمات مفتاحية