ليس بعيداً عن حفرة التضامن

2022.05.01 | 05:57 دمشق

279449093_5029801747095644_7740677250910108684_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

هنا بالضبط بين هذا الخراب المسمى بحي التضامن كان يسكن صديقي التركماني نجدت، وهنا كان يمكنك التأكد وأنت تصعد إلى شقته في الطابق الأخير بأن إعجازاً أو رعاية إلهية هي من تقف وراء عدم انهيار تلك المباني التي لا تحملها أعمدة بعد الطابق الأول، وهذا ما يفسر دعاء نجدت وهو يرفع يديه إلى السماء عندما يغضب من أهله أو ضيق حاله: اللهم فقط زلزال بسيط.. اللهم درجتين على مقياس  ريختر.

أما الأسئلة المؤلمة فتأتي من باب المصائر العاثرة للبشر الذين وزعتهم نكسة حزيران على أحياء العاصمة وقرى الريف أو بجوار جولانهم الذي بات بعيد المنال قبل أن يصير مستحيلاً بعد النزوحات الكبرى التي تسبب بها عتاة القتل.. هي الأسئلة المثارة بين فقراء مخيم اليرموك والتضامن والحجر الأسود والذيابية وببيلا في كل هذا المحيط المحطم خارج سور العاصمة حيث الجنوب الدمشقي المخنوق بتسميات النازح واللاجئ وأبناء الموظفين البسطاء القادمين من المحافظات الأخرى ومعهم سكان الأحياء الأصلية.. كل هؤلاء تخنقهم الأسئلة الحارة.

هواجس الجوع والظلم هي من شكلت -لهؤلاء المرميين في حفرة التضامن- أحلام التغيير والثورة فكانوا في مقدمة من ثار في محيط العاصمة

لماذا لا يجد أبناء هذه الأحياء سوى أحط الأعمال وأدناها، ولماذا هم هنا في هذه البيوت الآيلة للسقوط، وهل عليه أن يصدق أحاديث أبيه وجده عن قراهم الجميلة وبيوتهم الواسعة ورزقهم الوفير بينما هو عليه أن يعيش هذا الفقر بكل حكاياته وألوانه، وأما من يريد الذهاب في الأسئلة الخطيرة فعليه أن يبدأ بالالتفات شمالاً ويميناً حيث للجدران آذان: أليس ضياع الجولان صفقة القرن السابق، أو ليست كل هذه الآلاف المطرودة من قراها بداية حكاية نزوح تجاوزت نصف قرن لمجرد حماية جبهة إسرائيل الشمالية وتثبيت عرش من فرط بها؟

هواجس الجوع والظلم هي من شكلت -لهؤلاء المرميين في حفرة التضامن- أحلام التغيير والثورة فكانوا في مقدمة من ثار في محيط العاصمة، وأول من أعلن العصيان على مشاهد القتل والدم في المدن والقرى السورية، وكان على هؤلاء أن يدفعوا فاتورة التهجير مرة أخرى، وهم المطعونون بتسميات النزوح واللجوء حتى العظم، ولهذا كانت جحافل الشبيحة الحاقدة تلوح بالعصي السوداء في الأيام الأولى للمظاهرات، ومن ثم ابتدأت حفلات الدم والرصاص بكل ما أوتي القتلة من حقد وأعذار كالتي رددها أمجد يوسف بطل مجزرة التضامن في أنه ينتقم لمقتل شقيقه القاتل.

ليس بعيداً عن حفرة التضامن يروي أبناء الأحياء الجنوبية حكايات أكثر قسوة عن القتل بدم بارد دون تمييز بين طفل وامرأة وعجوز، وعن اغتصاب النساء والصيحات الطائفية والشتائم التي تطول الآلهة قبل البشر، ويصرخ أحد الناجين من لوثة أيام الموت: هم يقتلون لأنهم يحبون القتل ليس بحثاً عن مسلح أو عدو أو منافس.. هم يريدون القتل.

أحد المجرمين من شاكلة أمجد يوسف أوقف السرافيس المتهجة من دمشق إلى الريف عند أول حاجز المطار وطلب هويات الركاب ومن ثم حجز كل مواليد مدينة المعضمية من نساء ورجال، وبعدها بأيام تم الكشف عن مجزرة بحق مدنيين تمت تصفيتهم بطلقات في الرأس.. والسبب أن هذا المجرم المعتوه عند سماعه بقتل شقيقه أخذ قراره على الفور بالانتقام العشوائي.. تلك حكايات ليست بعيدة عن الحفرة.

عن مجزرة داريا الكبرى ثمة حكايات عن أحذية أطفال ونساء وأنصاف جثث صغيرة تم رميها من حاملات الجنود التي خرجت بعد المذبحة، وأن رائحة الدماء بقيت لأيام في سماء المدينة قبل أن تغلق على نفسها لخمس سنوات من الحصار والقصف.

عن كل ما سبق ثمة حفرة كبيرة هي الوطن.. والحفرة الأكبر والأكثر قسوة كانت بيد النظام وأعوانه وحلفائه ومرتزقته

ليس بعيداً عن حفرة التضامن ثمة أعداد مضاعفة من القتلى وبعض الحفر تم إعدادها على مهل في جديدة الفضل بريف دمشق.. أكثر من خمسمئة قتيل هي الحصيلة المعلنة بعد خمسة أيام من الحصار والقصف المدفعي الشديد.. بعد نحو الشهر من خروج الشبيحة تم الإعلان عن اكتشاف مقبرة جماعية حوت أكثر من 70 جثة قيل حينها إنهم الجناة من مسلحي العصابات المسلحة.

عن كل ما سبق ثمة حفرة كبيرة هي الوطن.. والحفرة الأكبر والأكثر قسوة كانت بيد النظام وأعوانه وحلفائه ومرتزقته، وثمة حفر هنا وهناك على هذه الخارطة السورية المدماة بيد من رفعوا راية الحرية وأشباههم من أصحاب الرايات الملونة والسوداء.. وثمة اليوم من يعيشون على دماء الضحايا في المدن المزدحمة ويهتفون للعدالة والقصاص بعيداً بعيداً عن حفرة التضامن.