ليس الاقتصاد يا...

2022.09.04 | 06:38 دمشق

ليس الاقتصاد يا...
+A
حجم الخط
-A

عام 1980، عندما جمع شفيق الفياض، قائد الفرقة الثالثة في جيش حافظ الأسد، التجار في مدينة حلب عقب الإضراب الذي عمّ المدينة تضامناً مع الحركة الاحتجاجية للنقابات المهنية وغيرها من الفعاليات دعماً للمطالب الشعبية برفع الأحكام العرفية والمطالبة بالحريات العامة، وهو الموقف الذي دفعت البرجوازية الحلبية ثمنه على مدار عقد من الزمن، وهددهم في مشهد لا يخلو من الإهانة قائلاً، من لا يفتح مخزنه اليوم، سيُحرَق بما فيه. تضمن خطابه إشارة إلى نقطتين: أن السلطة الحاكمة في الأنظمة السلالية هي من يتحكم في البلاد والعباد وليس الاقتصاد كما تقول الماركسية، والأمر الثاني كان الإشارة إلى تفكيك هذه الطبقة كونها تجرأت على التمرد، وإعادة تشكيلها بما يتماشى مع نمط الحكم السلالي.

لا يزال بعض الماركسيين العرب يؤكدون على الدور الهام الذي يلعبه الاقتصاد (بنية تحتية) وبيئته في تشكيل مختلف الجوانب الأخرى أو البنى في المجتمع، ومنها السلطة السياسية كبناء فوقي يعبر عن مصالح الطبقات الحاكمة، وهو ما يشير إلى عقم الفهم الميكانيكي لماركسيتهم وللسياسة عموماً الذي أدخلهم بعلاقات تحالفية مع أشد الأنظمة وحشية، كونها أتت من منابع غير برجوازية، متغاضين أو متحالفين عن طبيعة تلك السلطات المتوحشة التي وضعت نصب أعينها "تأميم وأمننة" الحياة العامة والخاصة للمجتمع وحصرها بأياد "أمينة" خاصة بتلك السلطات وأجهزتها، ولا سيما المخابرات وكبار الضباط. فصحيح أن كبار المسؤولين في هذه السلطات ينحدرون من منابت طبقية فلاحية ريفية، لكن غايتهم من السلطة كان السيطرة الكاملة على قطاعات الحياة الاجتماعية كافة.

اخترع نظام السلالة الأسدية تمييزا جديداً للمواطن، وهو المواطن الشريف، أي المخبِر، الذي سيتحول لاحقاً إلى نواة "المجتمع الصحي والمتجانس"

وأولى القطاعات التي أحكم الأسد السيطرة عليها كانت قطاع المخابرات والجيش، التي استخدمها فيما بعد للاستيلاء على القطاعات الأخرى، وهي السياسي والمدني، فبعد أعوام قليلة من انقلابه، أحكم الأسد سيطرته على الحياة السياسية من خلال حشر مجموعة من الأحزاب الكرتونية في جبهة وطنية تجتمع وتأتمر بأمر "سيد الوطن"، أحزاب حصرت نضالاتها العتيدة بالدفاع عن قاعدتها المزعومة المتلخصة بالمطالبة بتخفيض أسعار البطاطا والسكر وغيره، في استهتار واضح بالجانب الأهم من حياة البشر، وهو الحرية. أما من تجرأ ورفض الانطواء تحت مظلة القيادة الحكيمة فمصيره الاعتقال ورميه في السجون إلى أجل غير معروف، ومن ينجو يغدو همه البحث في آليات التخفي من أجهزة الأمن خوفاً من الاعتقال. وينطبق الأمر نفسه على الحياة المدنية، إذ اخترع نظام السلالة الأسدية تمييزا جديداً للمواطن، وهو المواطن الشريف، أي المخبِر، الذي سيتحول لاحقاً إلى نواة "المجتمع الصحي والمتجانس".

أما القطاع الأخير الذي توجه نحو تفكيكه وإعادة بنائه وفق قواعد جديدة، فهو قطاع الاقتصاد. ففي بداية حكم الأسد الأب، كان هناك ثمة اتفاق غير مكتوب بتقاسم تلك القطاعات، حيث كان هذا من نصيب البرجوازيين، مع إخضاعه للمراقبة والتوجيه النسبيين. مع نهاية السبعينيات حيث ظهر التمرد ضد سلطته في بعض المدن الرئيسية، وخاصة حلب، إذ قام قسم كبير من تجارها بالإضراب تضامناً مع المطالب العامة للتمرد، فوجد النظام الأسدي أن الفرصة قد حانت لينهي الاستقلالية النسبية لذلك القطاع، فكان تعامله العنيف من خلال المخابرات والجيش وبرسالة واحدة عقابية بغاية إخضاعه، حيث حُرِم من كثير من مزايا العملية التجارية والاقتصادية (استيراد وتصدير) التي أغدِقت على برجوازية دمشق التي ساندته، ولاستكمال هيمنته على كل مفاصل الحياة العامة قرر تفكيك ذلك القطاع وإعادة بنائه في مرحلة لاحقة.

مع أوائل التسعينيات، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وصدور قوانين الاستثمار الخاص، التي كانت الفرصة والوسيلة لإعادة بناء هذه الطبقة من خلال تعهيدها بالمعاملات التجارية الداخلية وحتى الدولية (إيفاء الديون لروسيا من خلال تقديم البضائع، وحتى تسديد المنح الدراسية (في ألمانيا الشرقية سدد الأموال مقابل المنح الدراسية بالشعير)، وكان ذلك بعقد واضح الشروط مع الفئة الجديدة، تقديم الولاء أولاً، وتقاسم الأرباح ثانياً، وهذه مشروطة على الدوام بالالتزام بالشرط الأول، فأي إخلال به أو عدم رضا القيادة الحكيمة يعني نهاية العقد، والعقاب أيضاً. فنشأت من خلال هذا التعاقد الذي فرضته السلطة الحاكمة طبقة برجوازية جديدة يحكمها قانون الربح مقابل الولاء، حيث لم يعد للإنتاج دور كبير في تحصيلها.

كان رامي مخلوف (ابن خال الأسد) الممثل الأبرز لتلك الفئة، التي امتلكت أكثر من نصف الاقتصاد السوري فقط نتيجة النسب، وتحول حتى البرجوازيين الجدد إلى مجرد تابعين له يطلبون وده

مع وراثة بشار للسلطة في أواسط عام 2000، كان التحالف مع هذه الطبقة ركناً أساسياً في حكمه، لكن بشار عمل على تطييف تلك الطبقة، أو رأسها على الأقل، فأنهى سيطرة البرجوازيين القديمة، من خلال فرض بعض رجال العائلة كجهة مهيمنة على كثير من القطاعات الاقتصادية التي نشأت مع قوانين الاستثمار، مثل المصارف والاتصالات الخليوية وغيره، فغدت تلك الطبقة الجديدة محكومة مثلها مثل القطاع الأمني والعسكري بفئة من رجال الأعمال التي تجمعهم صلة قربى بآل الأسد الجدد وبشراكة مع رأس الهرم في سلطة السلالة، فكان رامي مخلوف (ابن خال الأسد) الممثل الأبرز لتلك الفئة، التي امتلكت أكثر من نصف الاقتصاد السوري فقط نتيجة النسب، وتحول حتى البرجوازيين الجدد إلى مجرد تابعين له يطلبون وده.  

مؤخراً، بعد طغيان رامي مخلوف وتأسيسه لميليشيا وجمعية إغاثة، حيث غدا اسم رامي مخلوف متداولاً ليس كداعم للسلطة فقط، بل للقاعدة الموالية للنظام، وخاصة بين أهالي المصابين والقتلى، وهو أمر ترفضه السلطة السلالية، فبروز أي اسم مهما كان يعد تهديداً لرأس الهرم. ومع بروز رأس جديد في قمة السلطة، وهي أسماء الأسد، سيدة الجحيم، التي انتزعت لنفسها الإشراف على هذه الفئة الجديدة، والجابي للأموال مباشرة، قررت السلطة السلالية التخلص من مخلوف، فجردته بقرار من أملاكه وصادرت أمواله، ووضعته قيد الإقامة الجبرية، وهو ما يؤكد أن العلاقة في الأنظمة السلالية مع كل القطاعات، ومنها الاقتصاد، هي علاقة إذعان، وليست علاقة تفاعلية.

تؤكد المسيرة هذه طريقة تعامل النظم السلالية مع القطاعات المختلفة (الاقتصاد والسياسة والثقافة) في المجتمع، فهذه السلالة هي الوحش الذي يبتلع الجميع، وخاصة من لا يرضخ أو التي تشعر به أنه خصم محتمل، وبالتالي يغدو الاقتصاد ليس من يشكل أو يفرز نخبته الحاكمة، وإنما وجبة من وجبات السلطة، التي تصنع حتى الطبقات، فهي من تُفقر، ومن تُغني، ومن تميت بعد الله.