لها مالها وعليها ما عليها

2022.12.30 | 07:35 دمشق

لها مالها وعليها ما عليها
+A
حجم الخط
-A

حول التعزية والتهنئة عند المعارضين السوريين

حضرت في الأيام الماضية، حين وفاة الشيخة منيرة القبيسي عبارة: "لها مالها وعليها ما عليها"، وكانت قد غدت "ترند" حين وفاة حسني مبارك، بل باتت لافتة عريضة يستعملها كثيرون، إنْ أرادوا التسويغ لمن تختلف الآراء حوله، وتجاهلوا أن مثل تلك العبارة يمكن أن تستعملها حتى بحق بشار الأسد وأبيه: لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، بحيث تغدو تسويغاً لتصرفات أي شخص.

 أثارت وفاة منيرة القبيسي، قبل أيام، سيلاً من التعليقات حول جواز التعزية بمن وقف مع النظام القاتل، أو عدمه، وبدا أن المحتجين على التعزية ينقسمون إلى:

  • المحسوبين على اليسار السوري، رداً على ما يقوم به الاتجاه المتدين في حال وفاة أحد من المحسوبين على اليسار، الذين يستحضرون "له ما له وعليه ما عليه".
  • ملاك اليقين الثوري، الذين يرون أن كل من لم يقف مع الثورة بصوت عال، خارجٌ من جنة التعزية المعارضاتية، وأنه من العار والثبار والدثار التعزية به.
  • الباحثين و"العاقلين" السوريين والأحرار في التفكير، الذين يجدون أن المرجع في جواز التعزية من عدمه يجب ألا يعود إلى الانتماء الديني أو الموقف السياسي، بل إلى الموقف الأخلاقي والإنساني والقيمي، بحيث إنه من المنطقي ألا يسكت الشخص الذي ينشغل في الشأن العام عن الجرائم التي ترتكب أمامه، حتى لو كانت قناعات تلك الشخصية الدينية بخلفيتها الأشعرية لا تجيز الخروج على الحاكم كما صرح بذلك الباحث الشيخ سعيد البوطي ذات مرة.

في كل وفاة تحضر هذه المقولة، ويبرز ذلك الخلاف بين السوريين، اللغة والمعجم والمواقف والحدة ذاتها تستعملها كل الأطراف، حين تبتغي التعبير عن حالة عصبوية، تغيب لغة العقل وتحضر لغة الانفعال. يحضر ذلك بين العرب والكرد والقسديين والشمال المحرر وإدلب والمناطق التي يحكمها النظام. شهدتُ ذلك مؤخراً عبر مجموعات الواتس آب حين وفاة الكاتب وليد معماري والدكتور فؤاد المرعي.

مردّ الأمر في كل ذلك الأرضية الفكرية التي ينطلق منها كل فريق، ومرجعيته، وما الذي يجوز وما الذي لا يجوز؟ ومن يحدده؟

لا يحدث ذلك في الوسط الإعلامي والثوري والسوشال ميديا فحسب، بل كذلك على الصعيد الأكاديمي، لي زملاء يعملون في جامعة عربية، تدعم تلك الدولة الثوة السورية، ولا تزال، أنْهِي عقدُ أحدهم قبل سنوات، وهو يظن أن سبب الإنهاء أن زملاء سوريين آخرين له "اشتغلوا" به لدى إدارة الجامعة، لأن موقفه تشبيحي، فيما كتب من روايات. زميلنا السابق الذي عاد إلى أحضان الوطن بعد إنهاء عقده يقول: موقفي لم يكن تشبيحياً، هذه قناعاتي وعبرت عنها، وهذا أكثر إيلاماً!

لا بدّ من عدم إغماض النظر عن أصل المشكلات في سوريا، عن المجرم الذي قتل نحو نصف مليون سوري، وأسقط البراميل على الأهل في جريمة لا شبيه لها في التاريخ

وبات يبحث عن خلفيات موقف أولئك الزملاء؛ فأراح نفسه بالقول: الغيرة من كونه حقق حضوراً عربياً في مجال إبداعي هي السبب! تقتضي الأمانة الأخلاقية أن الزميل المتهم بأنه اشتغل في الزميل الآخر كي ينهي عقده، لا أظن أنه يفعلها، بحكم معرفتي السابقة به، لأن لديه أرضية أخلاقية تمنعه أن يعمل بمجال "قطع الأرزاق"، أما الغيرة من التميز الإبداعي لزميلنا الشبيح، لو سلمنا به، فلا يمكن أن يتجاوز حجمه خمسة في المئة من حجم الموقف، الذي أظن أن أرضيته أخلاقية معيارية دينية.

المهم ها هنا ليس الموقف السياسي للزميلين فحسب، بل الموقف والمأزق الأخلاقي، فكيف يستطيع أن يصمت روائيٌّ عن إجرام النظام أو أن يسوغ له، ويتفرغ لفضح مشكلات المعارضة فحسب. لا بدّ من عدم إغماض النظر عن أصل المشكلات في سوريا، عن المجرم الذي قتل نحو نصف مليون سوري، وأسقط البراميل على الأهل في جريمة لا شبيه لها في التاريخ، حيث يتحكم الهواء وسرعة الرياح والجاذبية في نوع الضحايا الذين يختارهم البرميل وهم من شريحة سورية واحدة!

زميل سوري آخر يعمل في الجامعة نفسها، ومتخرج من أوروبا، "اشتغل" في زميل آخر سنوات طويلة كي لا يحصل على فرصة بسيطة، وهي عضوية هيئة تحرير دورية عربية، لموقفه السابق العصبوي ضد زميله ولثقته باليقين الوهمي، ولكن للمفارقة أن الشخص الذي أنصت إليه طُرِدَ بعد فترة بتهمة سرقة، فغدا الموقف الأخلاقي للواشي والمصغي في حالة حرج وإرباك!

تعود زعزعة القيم في المجال الإنساني اليوم إلى أمرين رئيسيين هما: أن الوضع السوري وضع متحول ومتبدّل، فالحقيقة في مناطق قسد هي غير الحقيقة في مناطق الجولاني، ومناطق الشمال ومناطق النظام، كلٌّ منهم لديه صح وخطأ، ومنظومة قيمية ومرجعيات وسلوكات يومية، ويحمل سيف التكفير والتشهير والتقديس والتمجيد تبعاً لظروفه ومعطياته ويقينه.

والأمر الآخر أن اليقين والحقيقة اليوم صارا، عالمياً، متحولين بسرعة، بفعل الثورة الرقمية والتحولات، وسرعة المتغيرات واهتزاز اليقين المعرفي والقيمي، أمام سيل المعلومة والمتعة، التي تخرجها كل ثانية السوشل ميديا.

لدي زميل جامعي كردي سوري يقيم في كوردستان العراق، أنظر إلى حالاته على الفيسبوك، وأجد أن معظم من يعتز بهم بصفتهم أبطالاً، يعدون مجرمين عند شريحة معارضة أخرى من السوريين، وأتساءل كيف للسوريين المعارضين أن يجدوا مشتركات بينهم، دعك من الموقف العنيف بين النظام والمعارضة، وهل يمكن استعادته وتعميقه مستقبلاً، ذات سوريا! أنظر إلى تجارب الشعوب الأخرى فأستعيد الأمل!

لا يزال فريق كبير من الثوريين والناشطين والمعارضين السوريين يرون أن كل من حصل على منصب ما في عهد بشار الأسد عليه ألا يكون في صفوف المعارضة أو أن يستقيل أو مشكوك بأمره، وهكذا نعاود السيرة منذ عقد إلى يومنا هذا.

تريحنا نحن السوريين القطيعة الكلية، تخفِّف من وطأة الدخول في المناطق الرمادية وتقليب الوجوه، ونتناسى أن الحياة في جلها ليست إلا مناطق تفاوضية وأخذ وعطاء. وما الحياة في وجه من وجوهها إلا "مطاطة" كي نستمر بها، وربما لو اتبعنا نظرية الأبيض والأسود لما أكملنا يومنا مع أنفسنا ومع أعز الناس علينا.

تقلييب الوجوه وتقليب القول من أفكار العرب القديمة كي ترى للموضوع وجهاً آخر، ويقارنون ذلك بأن أي أمر يمكن أن تنظر إليه وأنت في غرفتك من عدة زوايا، لكن هل يصح ذلك على القيم والمبادئ؟ وما المرجع: الإنساني، الديني، الحزبي، الوطني، الطائفي، القومي؟

هل نحن بحاجة، كسوريين معارضين، اختاروا خيار الثورة السورية، لمدونة سلوك؟ ومن سيصوغ هذه المدونة؟ عرب، كرد، متدينون، يساريون، باحثون وإعلاميون وكتاب؟ وما مرجعياتها، تجاربنا وتجارب الشعوب الأخرى؟  وما مكوناتها؟ وهل أصول التعزية والتهنئة، أصول التعامل عبر الفيسبوك؟ ما نقرؤه؟ ما نشاهده، وما نشجعه؟

لي صديق يحب أغاني علي الديك وحسين الديك ويشغل موقعاً معارضاً مهماً، هل يمكن أن تمنعه مدونة السلوك تلك من ذلك، دعك من اتهام بعضنا بحب الطرب "الكراجاتي" أو سوى ذلك. فالطرب الشعبي والدبكة جزء من تراثنا.

وأذكر أنه حين عزفت الفرقة السيمفونية السورية أول حفل أوركسترا 1991 في مجمع إيبلا على طريق مطار دمشق، اشتُرِطَ علينا أن نلبس لباساً رسمياً، وأن نلتزم بالصمت وألا نصفق، كان ذلك مفاجئاً وشاقاً علينا، فقد تعلمنا في طلائع البعث وشبيبة الثورة وخطابات القائد وتحية العلم الصباحية أنك كلما صفقت بقوة يكون ذلك تعبيراً عن الإعجاب والفخر الشديدين. تساءلت يومها: هل حياتنا السورية تسمح بهذا الجو الأوبرالي؟ وهل يليق بالأنظمة المستبدة أن تنتج مثل تلك الموسيقا البالغة بالعمق، والتي لا يخطر ببال من يحضرها، أنه قد يُعْتقل من قبل المخابرات مثلاً!

تكمن أهمية النقاش الذي يحدث عند وفاة الشخصيات العامة في أنه يحرك الساكن ويعيد طرح الأسئلة، ويسهم في التخفف من اليقين

قد يكمن جل المشكلة في بحثنا عن التطابق، ونبذنا للمختلف، فهل من المعقول أن نكون كسوريين معارضين على نفس الطريقة والمنهج والرؤية؟ بالـتأكيد لا، وإلا لما قامت ثورتنا! لكن من المهم أن تكون هناك مناطق مشتركة وخيوط عريضة بيننا وألا تكون مساحة الاختلاف كبيرة على منظومة القيم الأساسية الإنسانية. ومن الضروري أن نترك الحراك المجتمعي السوري يأخذ مداه، ويسير بهدوء نحو الأمام، ليفرز منظومته.

وتكمن أهمية النقاش الذي يحدث عند وفاة الشخصيات العامة في أنه يحرك الساكن ويعيد طرح الأسئلة، ويسهم في التخفف من اليقين، خاصة أننا في سوريا اعتدنا أن نتجاوز الكثير من الخلافات إبان التعزية.

يحدثني صديق كان يعمل في شعبة الحزب في كلية الآداب بجامعة دمشق أن وجوده في الشعبة أنقذ فتيات جامعيات سوريات كثيرات من الاعتقال، حيث كان يسرب لهن أخبار المداهمات، أو يفتح الباب الخلفي لشعبة الحزب كي يخرجن، معرضاً حياته للخطر، وأن ذلك لم يحسب له، بل حُسِبَ حساب من خرج في مظاهرة وصور نفسه! ذلك جانب من المسكوت عنه في سيرة الثورة السورية! رددتُ عليه بالقول: إنْ سألك أحدٌ من العدميين السوريين بعد اليوم، قل له: لي ما لي، وعلي ما علي أسوة بما قيل عن حسني مبارك ووليد معماري ومنيرة القبيسي رحمهم الله!