لمن ستكون المنطقة الآمنة؟

2019.01.24 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ألقى اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنشاء منطقة آمنة في شمال شرق سوريا، مزيدا من الغموض والضبابية على المشهد المعقد أصلا بفعل قراره سحب القوات الأميركية من الأراضي السورية. لا يخفى على أحد هنا أن الإعلان عن إنشاء المنطقة الآمنة ما هو إلا محاولة أميركية للملمة آثار القرار غير المدروس جيدا بالانسحاب.

لقد أدركت الولايات المتحدة بعد إعلانها سحب القوات من شمال شرق سوريا، أن فراغا كبيرا سينشأ بعد رحيل قواتها، وستكون إيران وروسيا والنظام السوري، إضافة إلى تنظيم داعش، هي أكثر الأطراف المؤهلة لملء هذا الفراغ، والأكثر ترقبا وتوثبا وانتظارا له، وهي أيضا الأطراف التي لا تريدها واشنطن أن تحل مكانها، أو أن تحقق انتصارا عسكريا وسياسيا بعد انسحابها. في هذا الصدد كلنا يعرف حجم الانتقادات الداخلية

من الواضح أن ما تريده واشنطن من المنطقة الآمنة يختلف عما تريده أنقرة، وذلك رغم وصف أردوغان الاتفاق بـ "التفاهم التاريخي"

في الولايات المتحدة لهذا القرار الاعتباطي، وخاصة من قبل قادة في البنتاغون ومجلس الشيوخ، ومنهم من هو مقرب من إدارة الرئيس دونالد ترامب، مثل عضو مجلس الشيوخ ليندسي غراهم.

صحيح أن الإعلان عن إنشاء منطقة آمنة بعرض32 كلم شمال سوريا أتى بعد مباحثات بين الرئيس ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، لكن من الواضح أن ما تريده واشنطن من المنطقة الآمنة يختلف عما تريده أنقرة، وذلك رغم وصف أردوغان الاتفاق بـ "التفاهم التاريخي". فالرئيس التركي نفسه الذي وصف هذا التفاهم بـ "التاريخي"، عاد وقال بنفس المناسبة خلال كلمة ألقاها في البرلمان أمام كتلة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم، إن اختلاف مواقف أنقرة وواشنطن حول سوريا "أمر محزن".

وإضافة إلى تركيا والولايات المتحدة، هناك العديد من القوى واللاعبين الدوليين والإقليميين الذين لديهم مواقف مختلفة، وتطلعات متناقضة حول المنطقة الآمنة، ومنهم من لا يريدها أصلا، مثل روسيا التي أعلن وزير خارجيتها سيرغي لافروف رفض بلاده المقترح الأميركي بإقامتها، وشدد على أن الجيش السوري هو مَن يجب أن يسيطر على شمال البلاد، قائلا إن "الحل الوحيد والأمثل هو نقل هذه المناطق لسيطرة الحكومة السورية وقوات الأمن السورية والهياكل الإدارية".

أيضا تتطلع قوات سوريا الديموقراطية، ووحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبر أكبر مكونات هذه القوات، إلى المنطقة الآمنة بعين مختلفة تماما عن الجميع، وربما مختلفة عن الولايات المتحدة ذاتها.

فإذا كانت واشنطن تريد من المنطقة الآمنة تحقيق عدة أهداف بعد تفاهمات مع تركيا، مثل منع قوى "معادية" من ملء الفراغ بعد سحب قواتها، مثل روسيا وإيران والنظام السوري وتنظيم داعش، وتريد أيضا توفير نوع من "الحماية" لحلفائها الأكراد، فإن تطلعات هؤلاء "الحلفاء" أنفسهم تختلف عما تريده واشنطن وتتناقض تماما عما تطمح إليه أنقرة.

فالقوى الكردية الممسكة بزمام الأمور على الأرض، ونقصد هنا قوات سوريا الديمقراطية، ما تزال حائرة ومتوجسة، وربما لديها مخاوف فيما لو استطاعت أنقرة إقناع واشنطن وموسكو بلعب دور عسكري ولوجستي مركزي في إدارة هذه المنطقة، ولعل الرد الأولي للقيادي الكردي ألدار خليل الرافض لهذه المنطقة، يعكس حقيقة هذه الهواجس حين قال إنه "يمكن رسم خط فاصل بين تركيا وشمال سوريا عبر استقدام قوات من الأمم المتحدة تابعة للأمم المتحدة لحفظ الأمن والسلام أو الضغط على تركيا لعدم القيام بمهاجمة مناطقنا".

ومن ناحية ثانية، ربما ترى هذه القوات الكردية في المنطقة الآمنة، فيما لو كانت بإشراف أميركي كبير ومساهمة محدودة من أنقرة، حاجزا يمنع القوات التركية من شن عمليات عسكرية ضدها كعمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون". كذلك، ربما تتطلع هذه القوات الكردية لأن تكون المنطقة الآمنة بداية لتحقيق إقليم شبه مستقل وكيان فيدرالي أسوة بـ "كردستان العراق"، مستفيدة من دعم أو غطاء أميركي لهذه المنطقة.

أما تركيا، فترى ضرورة أن تقام المنطقة بالتشاور مع جميع الأطراف المؤثرة، بما فيها الدول الضامنة في مفاوضات أستانا (تركيا وروسيا وإيران)، وتؤكد على رفضها مشاركة وحدات حماية الشعب الكردية في العملية. لا بل إن أنقرة تريد من المنطقة أن تكون نهاية لأحلام الأكراد السوريين بتشكيل كيان شبه مستقل مثل إقليم كردستان العراق، وحاجزا أو ربما سدا، أمام من تعتبرهم منظمات "إرهابية" تهدد الأمن القومي التركي. ولقد أوضح الرئيس رجب طيب أردوغان ذلك صراحة حين قال إن بلاده لن تسمح أبدا "بمنطقة آمنة تتحول إلى مستنقع جديد ضد تركيا مثل ذلك الموجود في شمال العراق، ونحن لا نتحدث عن منطقة آمنة (كحماية) من تركيا وإنما منطقة لإبعاد الإرهابيين".

وأمام من يعتقد  أن الكلمة النهائية في موضوع المنطقة الآمنة ستكون في نهاية المطاف لتركيا، نظرا لأن الولايات المتحدة

الولايات المتحدة التي قررت الانسحاب عسكريا من شمال شرق سوريا، لن تنسحب نهائيا من المشهد سواء اعتمدت على تركيا في موضوع المنطقة الآمنة أم اعتمدت على حلفائها الأكراد

بصدد البحث عن شريك وحليف قوي يمكن الاتكال عليه عسكريا لملء الفراغ بعد انسحاب القوات الأميركية، ويمنع عودة تنظيم داعش، ويقطع الطريق على الميليشيات الإيرانية وروسيا وقوات النظام السوري، وأمام من يرى أن واشنطن تسعى من وراء هذه المنطقة إلى حماية حلفائها الأكراد المحليين، والاعتماد عليهم لتحقيق مصالحها، ولجم الطموحات التركية في سوريا، أمام هذا وذاك، فإن ثمة طريقا طويلا وشاقا من المباحثات بين كل الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة في المشهد السوري المعقد، لكن الثابت أن الولايات المتحدة التي قررت الانسحاب عسكريا من شمال شرق سوريا،  لن تنسحب نهائيا من المشهد سواء اعتمدت على تركيا في موضوع المنطقة الآمنة أم اعتمدت على حلفائها الأكراد وقواتها العسكرية المنتشرة في المنطقة.

ولعل تاريخ التدخل العسكري الأميركي في العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط، أو غيرها من الدول، (اليابان، ألمانيا، كوريا، أفغانستان، العراق..)  يؤكد أن الولايات المتحدة، غالبا ما استطاعت الحفاظ على مبررات للوجود العسكري حتى لو لم تحظ تلك المبررات بدعم من الرأي العام الأميركي نفسه، أو من قبل شعوب وحكومات تلك الدول التي توجد فيها القوات الأميركية. التجربة تقول إن واشنطن قد تتخذ قرارات بسحب أو تقليص عديد قواتها هنا أو هناك، لكنها لا تنسحب نهائيا من المشهد.