لماذا يفشل كثير من الناس في الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي؟

2020.06.05 | 00:01 دمشق

1440x810_cmsv2_71f92d26-3e6f-5cb6-9f00-1e8be3b58c04-4615502.jpg
+A
حجم الخط
-A

العزل أو التباعد الاجتماعي طريقة لجأ الإنسان إلى تطبيقها منذ القدم لمواجهة الأوبئة شديدة الانتشار كالطاعون بأنواعه وغيره من الجوائح التي حصدت أرواح الآلاف من البشر عبر التاريخ. وخلال الجائحة الأخيرة (كوفيد-19) التي لا تزال تسيطر على المشهد العالمي لم يجد المتخصصون طريقة أنجع من التباعد الاجتماعي لمواجهتها، لذلك تم اعتمادها من قبل كثير من الدول التي تفشت فيها بشكل سريع. ومع ذلك يفشل كثير من الناس في الاستجابة للنداءات المتكررة من منظمة الصحة العالمية والحكومات ويصرون على خرق الإجراءات الوقائية بشكل متعمد. فما هي الأسباب التي قد تدفع هؤلاء الأشخاص إلى خرق التدابير الوقائية وعدم احترامها أو أخذها على محمل الجد؟

يقول الفيلسوف الإغريقي الشهير "أرسطو" إن الإنسان كائن اجتماعي، وشاع هذا القول بشكل كبير حتى صار تعريفاً لماهية الإنسان. ولم يختلف الأمر عند الفيلسوف وعالم الاجتماع العربي ابن خلدون، الذي أضاف في مقدمته - إن الإنسان اجتماعي بطبعه- وهذا يعني أن الانسان فُطر على العيش مع الجماعة والتعامل مع الآخرين، فهو لا يقدر على العيش وحيداً بمعزل عنهم، مهما توافرت له سبل الراحة والرفاهية. فالإنسان يحب تكوين العلاقات وبناء الصداقات، والفطرة السليمة تمجُّ الانعزال التام، ومهما كان الإنسان منطوياً على ذاته، فإنه يسعى لتكوين علاقات مع الآخرين ولو محدودة جداً.

 

العيش في ظل جائحة أمر غريب على الإنسان، ولم يُطلب من معظمنا تقديم تضحيات مثل هذه من قبل مثل البقاء في المنزل والحد من الاتصال بالآخرين لفترة طويلة، الأمر الذي ولَّد اضطرابا كبيرا جعل معظم الناس قلقين في حياتهم الخاصة، ودفع البعض إلى تجاهل هذا الوضع تماماً، والاستمرار في حياتهم كالمعتاد، في حين لا تزال قلة من الناس تنكر وجود هذه الجائحة أصلاً.

فعلى الرغم من النداءات المتكررة من منظمة الصحة العالمية والمسؤولين الحكوميين بالبقاء في المنزل وإبطاء انتشار (كوفيد – 19)، فإن كثيرا من الناس لم يفعلوا ذلك، بل هناك مجموعات نظَّمت مظاهرات ضد إجراءات الإغلاق العامة وطالبت بالحد منها ورفعها خاصةً في الولايات المتحدة الأميركية، في حين استمر البعض بممارسة الرياضة والتجول في الأسواق وارتياد أماكن العبادة قبل إغلاقها بقرارات حكومية، ويصرون على خرق الحجر والتجول في الشوارع لأسباب لن تكون بالتأكيد أكثر أهمية من بقائهم على قيد الحياة.

المتخصصون في علم النفس حاولوا الوقوف على الأسباب التي تجعل هؤلاء يخاطرون بالخروج إلى الشارع ومخالفة التعليمات، وهم يعلمون أن الأمر محفوف بالمخاطر. ويظهر الأمر بشكل جلي فور إعلان الحكومات حالة الطوارئ أو حظر التجول، حينها يسارع المواطنون إلى الأسواق ويتسببون في حالة من الفوضى تزيد الخطر عليهم.

 

يقول علماء النفس أن هناك عدداً من الأسباب تدفع الناس لعدم الالتزام بقواعد العزل أو التباعد الاجتماعي معظمها يعود إلى الطبيعة البشرية للإنسان.

ووفقاً لهؤلاء العلماء يُقسَّم الأشخاص إلى ثلاث مجموعات وهي: المستجيبون بشكل مفرط للتوجيهات الحكومية، وأشخاص عديمو أو ناقصو الاستجابة، وهناك مجموعة تقع بين هاتين المجموعتين وتضم الأشخاص المعتدلون في استجابتهم للتدابير الوقائية التي تفرضها وزارات الصحة.

ويضيف "جوردون أسموندسون"، أستاذ علم النفس في جامعة ريجينا في ساسكاتشوان في كندا، أن المستجيبين بشكل مفرط هم "مشترو الذعر" الذين قاموا بتخزين إمدادات وسلع تكفيهم لشهور، إنهم خائفون جداً، ويدعمون أنفسهم بكميات كبيرة من السلع والمواد الغذائية للتغلب على خوفهم، وغالباً ما يؤدي هذا الخوف إلى نتائج عكسية لأن الأشخاص الذين يستجيبون بخوف لا يتخذون قرارات بناءً على المنطق. لذلك نرى كثيرا من الناس يتجمعون في الأسواق والمحال التجارية بكثافة قبيل الإعلان عن فترات حظر التجول ويتسببون في حالة من الفوضى تزيد الخطر عليهم، وهو ما يفسر تصرفهم بتهور دون التفكير في العواقب.

في حين أن الناس الذين ينتمون إلى المجموعة التي تقع في الوسط فإنهم يفعلون ما يطلب منهم القيام به دون ذعر أو تصرف متراخي.

أما عديمو أو ناقصو الاستجابة فهم أولئك الذين يتحدون إرشادات الصحة العامة ولا يعتبرون أنفسهم عرضة للخطر، وبالتالي لا يتبعون قواعد التباعد الاجتماعي لأنهم يعتقدون أنهم لن يمرضوا، وعلى هؤلاء قد يقع اللوم إذا استمر الفيروس في الانتشار لأشهر في جميع أنحاء البلاد.

فهؤلاء يرون أن هذه الإجراءات وسيلة لاستعادة السيطرة عليهم من قبل الحكومات، وتضر بالحريات الفردية التي طالما ناضلوا من أجلها خاصة في العالم الغربي، وهم يفضلون التمسك بهذه الحريات التي يفتخرون بها وعدم التخلي عنها حتى ولو تعارضت مع مصلحة المجتمع. في حين يعتقد البعض من هؤلاء أن مكافحة انتشار الفيروس ليست مشكلتهم ولا يقع عبئها عليهم، خاصة أولئك الذين يعيشون في مجتمعات لا تنتشر فيها العدوى أو لم يفرض المسؤولون تدابير وقائية صارمة فيها، وهم غالباً أقل رغبة في الابتعاد عن الآخرين.

 

إلى جانب ذلك يقول "ستيفن تايلور"، عالم النفس الإكلينيكي ومؤلف كتاب "علم نفس الأوبئة"، إنه نتيجة للضخ الكبير للمعلومات عن انتشار الفيروس وإجراءات الوقاية منه عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي باتت هذه المعلومات مربكة وتجعل الناس في وضع يسميه بــ"الخدر الوبائي" أي يصبحون غير حساسين لخطورة تجاهلهم لهذه الارشادات. خاصة فئة الشباب الذين تم إخبارهم بأنهم أقل عرضة للإصابة، بالإضافة إلى ميل هذه الفئة إلى المخاطرة، يمكن أن يعني ذلك أنهم لا يخشون الفيروس، وبالتالي لا يرغبون في تحمل عبء الابتعاد الاجتماعي والعزلة. أما كبار السن فهم بالأساس يعانون من أزمة وجودية ويشعرون بخطر أعلى وهو الوفاة أو الاكتئاب، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على استخدام الوسائل التكنولوجية للتواصل، كل هذا يسبب لهم مزيداً من الضغوط ويجعل من الصعب إجراء التغييرات في سلوكهم التي يُطلب منهم القيام بها.

 

إذاً، الناس يتوقون إلى التواصل واستمرار اللقاءات رغم آلاف الإرشادات الوقائية التي تصدرها المؤسسات الصحية كل يوم ومئات نشرات الأخبار والتحذيرات كلها لا تؤثر فيهم بشكل بالغ. في حين يتأثر الإنسان بما عاشه من قبل أو رآه في تجارب قريبة منه، لذلك تجادل "ليزلي مارتين" المتخصصة في علم النفس الصحي ومؤلفة كتاب أكسفورد حول الاتصال الصحي وتغيير السلوك والالتزام بالعلاج، بأن التحدي الرئيسي في اتباع إرشادات الصحة العالمية بشأن فيروس كورونا هو الطبيعة غير المرئية وغير الملموسة لانتشار الفيروس الأمر الذي يبدو أنه يجعل التهديد بعيد افتراضياً، فليس هناك دليل فوري على النتيجة، بسبب وجود فترة حضانة طويلة نسبياً، ولأن الكثيرين لا تظهر عليهم الأعراض في البداية، فإن التجاوب غالباً ما يكون متأخراً.

"جود بروير" هو عالم أعصاب وطبيب نفسي إدمان ومدير الأبحاث والابتكارات في مركز اليقظة في جامعة براون في الولايات المتحدة. يقول إنه من المحتمل وجود أسباب عديدة لعدم بقاء الناس في منازلهم منها أن بعض الناس يحاولون الاحتفاظ بشعورهم بالسيطرة من خلال تجاهل أو تحدي أوامر البقاء في المنزل، هناك أيضاً أشخاص معارضون بطبيعتهم ويتحدون السلطة بشكل روتيني.

في حين يذهب "سيون بهانوت"، الاقتصادي السلوكي والأستاذ المساعد في كلية سوارثمور في الولايات المتحدة، إلى أنه من المهم فهم علم النفس وراء رفض بعض الأشخاص المشاركة في التباعد الاجتماعي. ويضيف أن الناس بشكل عام لا يستجيبون للتهديدات التي لا يمكنهم رؤيتها، مثل الفيروس، وقد يعتقد البعض أن الوضع ليس خطيراً لأنهم "لا يرون الأشخاص يسقطون في الشارع من المرض أمام أعينهم".

أخيراً يمكن القول إن ظاهرة عدم التزام شريحة من الناس بقواعد السلامة والتدابير الوقائية تستحق الدراسة بشكل أكاديمي معمق لتفسيرها والوقوف على حيثياتها بالتحليل والتفسير والتنظير لأنها ظاهرة تتعلق بالسلوك الاجتماعي الإنساني. وهذا السلوك الاجتماعي مع بساطته نسبياً إلا أنه ظاهرة إنسانية حركية متداخلة الأبعاد والعوامل وفي تحقيق النتائج على الفرد والأسرة والمجتمع.