لم يتعبنا الموت... لقد أتعبنا الخذلان

2022.05.03 | 07:42 دمشق

d567d55f678360cbe5fde8c4.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يهدأ وجع السوريين، ولا يهدأ أنين أرواحهم المتعبة، وكلّما أغمضوا أعينهم عن فاجعة، فاجأتهم فاجعة أشد، هكذا تمضي سنوات هذه المأساة التي لم تتوقف منذ عقود.

ما نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية خبره السوريون، فقد شاهدوه مراراً بأم أعينهم، وتحسسوه على أجسادهم، وفوق أشلاء أحبتهم، ومع كل هذا فقد صدمهم تقرير "الغارديان"، وأيقظ كل مواجعهم السابقة، وذكرياتهم التي يحاولون تناسيها عبثاً.

ما يصدم في مجزرة "حي التضامن"، ليس إعدام عناصر من أجهزة الأمن السورية لمواطنين سوريين مدنيين فقط،  فقد أصبح الموت على يد هذه الأجهزة حدثاً يتكرر يومياً في حياة السوريين، وليس فقط طريقة إعدامهم التي تزلزل الروح، وليس إعدام مواطنين يظهر من ملابسهم أنهم معتقلون للتو، وربما قبل دقائق على حاجز ما، وبالتالي فإن إعدامهم ليس له أي سبب، حتى بنظر من اعتقلهم، ما يصدم أكثر من كل هذا هو هذا الاستسهال البالغ في قتل الآخرين، كأنّما القتلة أدمنوا إجرامهم، وكأنما يمارسونه بكل تلقائية وعادية، وكأنما ألفوا منظر الدم، والأجساد التي تتلوى من الألم، وكأنّما من يقتلونهم ليسوا بشراً من لحم ودم.

من نافلة القول إن فعلاً كهذا، وجريمة بكل هذه البشاعة، لم تكن لتتم لولا وجود ضوء أخضر صريح من جهات عليا، لا بل أستطيع القول، والجزم، أن هوية المستهدفين أيضاً محدّدة

من أين يأتي كل هذا الاستسهال في القتل، وكل هذا الحقد، وكل هذه المقدرة على الإجرام؟ وهل يكفي ما يتم تكراره عند كل جريمة أو مجزرة، أم إن هناك ما يجب البحث عنه، لفهمه وتفسيره، وربما هناك ما يجب الاعتراف به صراحة، وبلا مواربة، فلم يعد التعامي عنه مجدياً، أو مفيداً كما كنا نعتقد سابقاً، ولم تعد التورية المخادعة تفيد في بقاء هذه القشرة الهشة من تماسك اجتماعي زائف، فهذه المخادعة التي تلطينا خلفها لعقود، وأغمضنا أعيننا بسببها عن خطة ممنهجة، لزرع حقد أسود راح ينمو ويتغذى ويتمدد، وعندما آن وقت استثماره، أفلتوه وها هو يلتهمنا جميعاً.

من نافلة القول إن فعلاً كهذا، وجريمة بكل هذه البشاعة، لم تكن لتتم لولا وجود ضوء أخضر صريح من جهات عليا، لا بل أستطيع القول، والجزم، أن هوية المستهدفين أيضاً محدّدة، وبالتالي فإن ما قامت به المجموعة القاتلة التي ظهرت في أشرطة الفيديو، لم يكن قرارها، بل كان قرار جهات تقودها، ولن أخوض هنا في دوافع هذه القيادات، فقد أصبح معروفاً للسوريين.

ما استوقفني كثيراً، ليس في جريمة حي التضامن فقط، بل في مواقف ومجازر كثيرة غيرها، ومنذ انفجار الثورة السورية، هو الاندفاع الغريزي والأعمى والحاقد عند قسم من السوريين لقتل من ثاروا على النظام، حتى من دون أن يطلب منهم ذلك، بعبارة أخرى لقد كان صادماً بالنسبة لي أن يتطوع أفراد من السوريين المدنيين، بكامل رغبتهم واختيارهم، لممارسة القتل الهمجي، وهم بكامل حماستهم، وكأنما يخوضون معركة مقدسة.

ربما يذهب بعضهم لتفسير هذا الأمر، بغياب مفهوم الدولة بمعناه الحقيقي، وتغوّل المؤسسات الأمنية على الدولة والمجتمع، وانتفاء معنى المواطنة والقانون، ويضيف بعضهم فكرة اقتناع هؤلاء المتطوعين بما يقومون به كنتيجة لما سوّق له النظام عن مؤامرة تستهدف الوطن، وبالتالي فإنّ ما يقومون به هو في نظرهم فعل "وطني"، لا بل ذهب بعض تابعي النظام إلى طرح فكرة تقديس الجيش ومن يسانده، لإبعادهم عن دائرة الاتهام، ووصفهم بالمدافعين عن الوطن، رغم أنهم دمروه، وقتلوا مئات الآلاف من أبنائه، وشردوا الملايين.

لن أخوض في كل التفسيرات التي قيلت، رغم أنها تتعمد إخفاء الحقيقة، لكن لماذا نتجاهل عاملاً آخر، عاملاً أشد حضوراً، وأشد تأثيراً، ويكاد بنظري أن يكون الأساسي، وما عداه ليس إلا تغطية له، ومحاولة لتمويهه، وأعني بوضوح: "العامل الطائفي".

للأسف، إن من يقارب هذا الموضوع، سيجد نفسه كما لو أنه في حقل ألغام، فالنصّ الذي سيُكتب سيُقرأ على الأغلب بدلالة رغبات القارئ وعصبيته، وليس بدلالة النص ومعناه، وهذا ما دفع كثيراً من السوريين للابتعاد عن الخوض في مقاربة كهذه، لكن إلى متى يمكن لنا كسوريين أن نتجاهل هذا الأمر، وأن نتهرب من مواجهته؟

أمجد يوسف، المجرم الأهم في جريمة "حي التضامن"، ليس مجرد عنصر أمن يقوم بوظيفة موكلة إليه، وليس مجرد منتقم لمقتل أخيه كما ادّعى، إنه باختصار شديد شخص – ومثله الكثيرون- يتصرف بدوافع أعمق من ذلك، شخص مسكون بعصبية وبثقافة حاقدة، لا تبرر لنفسه جريمته وحسب، بل وتمنحه الرضى عما يفعله، شخص يمكنه أن ينام مطمئناً، وبلا أي إحساس بالذنب حتى لو قتل المئات، وحتى لوكان من بين ضحاياه أطفال، ونساء، ورجال عزّل لا ذنب لهم.

هذه الثقافة الحاقدة المتوارثة، والتي نمّاها النظام عبر عقود وغذّاها، وحماها، هي التي دفعت أمجد وكثيرين غيره لأن يفعلوا ما فعلوه، وإن المواربة في فضح هذه الثقافة، والاستمرار في تجاهلها يعني بقاءَها، ويعني أن سوريا ستظل ماضية في مسار الدمار إلى ما لانهاية.

ليست هذه الثقافة المتخمة بالكراهية والحقد، والتي ترى في الآخر عدواً أزلياً، حكراً على جهة ما، إنها منتشرة في بنى المجتمع السوري كلّه، وإن يكن بدرجات متفاوتة إلى حد كبير، وتفاوت حضورها إنما يتحدد بفائض القوة المتاح، وبصيغة العلاقة التي تربط حاملها بالعائلة الحاكمة، وما تختزنه هذه العلاقة من قدرة على الإفلات من المعاقبة والحساب، واستباحة الآخرين.

القدرة على استباحة الآخرين، وحقوقهم، وضمان عدم المساءلة والحساب تتحدد بدلالة وحيدة هي دلالة الولاء للعائلة، ومدى الخدمة التي تقدمها ميزة حماية الخارج عن القانون لهذه العائلة، سواء في زيادة ثروتها، أو في ترويع السوريين وإخضاعهم.

تحضر المعادلة الطائفية بوضوح في هذه الصيغة من العلاقة بين السوريين، صيغة رسّخها حافظ الأسد كأداة شديدة الفعالية في تفتيت المجتمع السوري، وفي إخضاع الشعب السوري، واستعملها بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون بوضوح في سنوات الثورة السورية.

آن أن نطلق كسوريين صرختنا الواضحة والصريحة في وجه القتلة الذين نعرفهم جميعا، وأن نفضح ثقافة القتل، بلا مواربة أو تعمية بحجة المقدس، فلا قداسة لثقافة قاتلة

إن فضح هذه الصيغة، وتعريتها واتهامها بوضوح هو مسؤولية كل السوريين، وإن القول الذي يسوّقه النظام، ويكرره بعض المثقفين وأشباههم بأن من يقفون مع النظام، ويرتكبون جرائمه هم من كل بنى المجتمع السوري هو محاولة لطمس حقيقة حضور الدافع الطائفي عند القسم الأكبر من مجرمي النظام. 

قد يكون دافع بعضهم لطمس هذه الحقيقة نبيلاً برأيهم، فهم يرون أن الوطن في لحظته الراهنة، لا يحتمل الذهاب إلى مقاربات تزيد من عمق الجراح المفتوحة في جسده، لكن ألا تكفي كل هذه السنوات، وكل هذا الدم لكي يدفعنا كي نفتح السؤال حتى آخره؟

السوريون الذين شاهدناهم وهم يسقطون في حفرة الموت في حي التضامن، وفي حفر أخرى، ومجازر أخرى ارتكبت بحق السوريين من قبل هذه الجهة أو من قبل خصومها، لا يكون خذلاننا لهم بنسيانهم فقط، إنه أساس في التعمية عن وجوه قاتليهم ودوافعهم العميقة، وفضح من يقف خلفهم.

آن أن نطلق كسوريين صرختنا الواضحة والصريحة في وجه القتلة الذين نعرفهم جميعا، وأن نفضح ثقافة القتل، بلا مواربة أو تعمية بحجة المقدس، فلا قداسة لثقافة قاتلة.

ما زالت فينا قدرة على الفعل والتحدي، ولم يتعبنا الموت رغم كل اتساعه وبشاعته، ما أتعب روحنا هو الخذلان، خذلان من هم شركاء وإخوة في الوطن.