لعبة النخبة

2020.05.08 | 00:13 دمشق

flstyn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

أصبح الحدث عادياً وربما لم يعد الأمر مدعاة للخزي أو العار أو تهييج المشاعر الوطنية، فالحرب الدائرة ما هي إلا حرب سيطرة بين طرفين غاصبين.

سماء دمشق أصبحت ممراً جويّاً لكل طائرات العالم وفي نهاية الأمر أصبحت مسرحاً للألعاب النارية لطيران الكيان الإسرائيلي يمارس فيها ما شاء من اختراقات، ويحتفل بما يريد من مهرجانات الصوت والضوء.

لم يعد من المقبول التحدث بأمر السيادة السورية فالوضع واضح وضوح الشمس، إذ لم يبق في سوريا أرضٌ أو سيادة، والشعب أغلبه نفض عن كاهله عبء الشعارات التي كانت مقدسة وكان مجرد الحديث عنها بسوء يعتبر محرماً.

بالعودة إلى مسألة الكيان الإسرائيلي يحيي الفلسطينيون في 15 من أيار/مايو من كل عام ذكرى النكبة، وهو يوم الاستقلال الإسرائيلي وفقاً لرواية الاحتلال حيث يحتفلون بإقامة الكيان على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما يعود تاريخ نكبتنا كسوريين إلى مرحلة تثبيت الحكم العسكري وتحكم القبضة الأمنية، إذ يبدو أن فترة استقلالنا لا تتجاوز زمناً قصيراً.

في مقاربة بسيطة للحالتين فالرابط ليس غامضاً، إذ إن الشعبين السوري والفلسطيني تجرّعا الألم من الكأس ذاتها، كذلك عانت شعوب الدولتين من الذل والاستغلال ومن التهجير القسري الجماعي لأعداد من المواطنين من دون وجه حق.

لا خلاف على مسألة اعتبار الاحتلال الإسرائيلي كيانا غاصبا محتلا للأراضي الفلسطينية، لكنه في واقع الأمر محتلٌ لشعبين الشعب الفلسطيني بشكل عسكري ومادي، وجوقة المتعصبين الصهيونيين الذين يؤيدون الكيان حتى ولو كان في ذلك ضرر لهم وموت كثير.

في نظرة على عجالة يمكننا أن نلاحظ أنه ينتهج السياسة ذاتها التي تنتهجها الأنظمة العربية، فكلاهما يحاول السيطرة على أكبر عدد من الشارع الانتخابي إذا صح التعبير، من أجل زيادة عدد المؤيدين لسياساتهم، وذلك من خلال اتباع أساليب توصلهم إلى السيطرة التامة على عقول أكبر عدد من المريدين، وإيهامهم بأن الأنظمة التي يترأسونها تعمل لما هو في صالح الشعوب، وأن الشعوب تعاني من حالة قصور في استيعاب الطرق والإجراءات التي تؤدي إلى الوصول للهدف المثالي الذي تسعى إليه النخبة السياسية، بحيث تصبح لعبة السياسة في نهاية الأمر حكراً على طبقة معينة يعتبرونها أكثر وعياً ودراية بالمصالح العامة.

يعمل المؤيدون لسياسات الأنظمة العربية على إبرام صفقة مريحة من وجهة نظر الطرفين "الشعب والنظام"، بحيث يمتنع المواطن عن التفكير بأبعاد وأسباب السياسات الحكومية، مقابل أن يكتفي شرّ بطش القوى العسكرية والأمنية التي تلوح بورقة التهديد الأمني في وجه كل من يحاول انتقادها.

إن حالة احتلال العقول، ينتج عنها حالة من التأييد المتطرف التي لا تقبل انتقاداً منطقياً ولا محاكمة عقلية لأي إجراء حكومي أو قرار سياسي،  وقد لا تخجل الشريحة المهيمَن عليها، من الإشارة بإصبع الاتهام ضد من يتجرأ على ذلك متهمة إياه بالتخوين، فتصبح الشريحة الكبيرة من الشعب التي استطاعت الحكومات برمجته وأدلجته لصالحها، جزءاً من الجيش الذي تعول عليه في مواجهة المعارضين لها.

الأمثلة في بلادنا كثيرة وربما حتى في بلاد مثل الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها راعية للديمقراطية، إذ إن كثيراً من المؤيدين لسياسات الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري، هم مغيبون حقيقة عما يجري في العالم ومحبوسون في داخل دوامة العمل اليومي، مكتفين بحالة الرفاه الاقتصادي، من دون الخوض في اللعبة السياسية التي يتركونها لخبرائها، مقابل الحفاظ على مستوى الحياة الذي اعتادوه.

إن أسهل طريقة للسيطرة على الشخص والتحكم بإرادته أو ردود أفعاله، تكمن في محاولة احتلال عقله وأدلجته وبرمجته بطريقة تجعله مؤمناً ومصدقاً لكل ما نقول.

وفي ذلك مارست القوى العالمية أقصى ما أمكنها على دول العالم الثالث من مسألة استخدام أنظمة حكم مستبدة، أو العمل على تفرقة طائفية واجتماعية وطبقية وتغذية عنصرية وصولاً إلى تطبيق تطبيع دماغي تام، من أجل تحقيق سيطرة على الدول عن بعد وتطبيع العلاقات معها، فوفرت على نفسها بالمقابل خسائر مادية وبشرية هي في غنى عنها باستخدام الاستراتيجية الجديدة.

استخدمت الحكومات العربية أيضاً لتحقيق ذلك، أسلوب التجهيل المتعمد وتغييب الشعوب عن الحياة السياسية التي تمنحنا فرصة الاختيار، وتمييز الاتجاهات والتوجهات التي على أساسها نرسم مستقبلنا ونحاول فهم واقعنا.

وعلى الرغم من أن دول العالم الأول متفوقون عنا في مسألة الحقوق السياسية، فإن حكوماتهم تحاول كسب ولاءاتهم بطريقة مشابهة إلى حد كبير لما تنتهجه حكوماتنا.

إن السعي إلى احتلال العقول والسيطرة على الإنسان واعتباره رجلاً آلياً مهمته العمل مع انعدام التفكير، يعد أشد فتكاً من الاحتلال العسكري.

ربما تأخرنا في إدراك هذه الاستراتيجية وربما أتاحت لنا حالة الثورة المتأججة في البلاد العربية فرصة الاكتشاف، إذ كانت مسبباً أساسياً لانشقاق الفجر عن ظلمة عقولنا التي مضى عليها عقود.

غير أن تلك المقاربة على الرغم من أهميتها فيها من الخطورة ما يجعلنا مرهونين لأدلجة جديدة، ففي الوقت الذي بدأت فيه الشعوب البحث عن حريتها وكسر قيد الاستبداد، وقع بعضنا في فخ تجاوز الاحتلال الإسرائيلي أو تجاهل القضية الفلسطينية، على اعتبار أننا بحاجة إلى التحرر الداخلي قبل البحث عن العدو الخارجي.

وعلى الرغم من منطقية المقارنة بين الكيان الإسرائيلي وكياناتنا العربية واعتبارهما في نفس الكفة، وعلى الرغم من كون الصراع الذي يدور بينهما لا يمت إلى قضايانا بصلة وأنها مجرد تصفية حسابات لا أكثر، فإن ذلك لا يلغي كونه احتلالاً قائماً على أرض مسلوبة وكيان استوطن وهجّر أبناء البلاد.

لكن ما يحزّ في نفسنا أنّ من نكّلوا بجثثنا وقتلوا عوائلنا وهجّروهم، هم بنو جلدتنا، إذ إن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة".