لسنا فاكهة الشيطان

2020.04.28 | 00:14 دمشق

645x344-1584345454238.jpg
+A
حجم الخط
-A

 

{30 وَكَانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى. 31 فَالشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا، فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ». 32 فَقَالَ لَهُمُ: «امْضُوا». فَخَرَجُوا وَمَضَوْا إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ، وَإِذَا قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ انْدَفَعَ مِنْ عَلَى الْجُرُفِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمَاتَ فِي الْمِيَاهِ}. إنجيل متى 8: 30 ـ 32

يُتداولُ كثيراً هذه الأوقات، حديثٌ عن عالم ما بعد "كورونا". قياساً على نهج ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو ما بعد الحرب الباردة. المزاج العام للبشر جميعاً، أقرب إلى روح تشاؤمية لا تستشرفُ أفقاً معقولاً يكفي للاستدلال على طريق مستقبلنا نحن البشر، وسكان هذا الكوكب لا يزالون قيدَ جدالٍ غير مستقر، حول ماضيهم القريب والبعيد.

لو تتبعنا الخطوط الصاعدة والنازلة في مشوار طريق الحضارة الإنسانية، منذ فجر التاريخ وانبلاجه الأول، حتى خَتْمه مؤقتاً بحقبة "الكورونا" هذه، لما ألفينا ما يمكنُ أن يؤسفَ عليه من ميراث الأولين والآخرين، سوى تقدم قضايا العقل والحرية والمعرفة الإنسانية، التي أنجز الكائنُ البشريُ منها قسطاً معقولاً، ليس سهلاً أن يُتنازل عنه بثمنٍ خفيف. أما ما يؤسف له وعليه، فأكثر من أن يعد أو ينحصر أو يحصى بارتجالية هينة وغير مسؤولة.

عالمنا اليوم، حتى لحظة هجوم الفيروس علينا، هو أشبه بقطارٍ كثير العيوب، متهالك الصنعة، قليل الدفع، مع شُحٍ في الطاقة والوقود. سيء الطريق والطريقة، ويكاد حديد سِكَّتِهِ لهشاشته أن يتفكك ويتبعثر، ولن يُفاجِئ انهيارُهُ الوشيك أحداً من البشر، وإن كان يصعب الحدسُ متى وكيف. فالجميع على ثقة ما، بلغت من درجات اليقين، أن قطارَ حضارتنا الحاضرة ماضٍ نحو هاوية لا يُدرى متى وكيف وأيّانَ سوف يتكبكبُ وينحطمُ الجميع فيها.

أَوَلم يكن البشر على الدوام فاكهة الشيطان ورهانَه المضمون؟ وهل كفت الأمراض السارية وغير السارية، عن الفتك بالبشرية يوماً؟ وهل توقفت الحروب واستراح المقاتلون يوماً عن قتل بعضهم؟ هل ودع الفقر، (أو ما تحت خط الفقر) مليارات البشر يوماً، رغم غنى الطبيعة والتقدم الصناعي والإداري والتنموي على مستوى الإنسانية طُرّاً؟ وهل تقدمت قضية الحرية والديمقراطية خطوة، أو تراجع خطاب التفاوت والعنصرية والتمييز والكراهية والاستغلال قاباً، رغم ضجيج الخطابات، وكثرة المناضلين والمكافحين؟

ما أبغَضَها وأثقَلَها من أعوامٍ سوداء الملمح، كئيبة السحنة، توغلت بذكرياتٍ قسوتُها أوسعُ من أن تُستَحضر، وآلامُها فوق ما يُعدُّ ويُذكر. نتقوَلُ عن كلِّ يومٍ فيها بمفردة "غابَ"، وهو حاضرٌ ملازمٌ عتيد. وكامنٌ ومحاصِر. ونذكرُ أنه "رحل" بينا دماءُ شهدائنا، نحن السوريين، في كل ساحات سوريا، طريةٌ ندية لما تجفَّ بعدُ، وبُلْغَةُ غُصص التقتيل والتهجير ورمي البراميل، واعتقال الناس أو تجويعهم، وتشريدهم وخطفهم وتعذيبهم، مترددة بين اللهاة والحنجرة. ولعلها ما بلغت ذروتها بعدُ، حين دخولنا عصر "كورونا"، وإن تكن قد استوعرت أن يُرتقى إليها. 

الجانب السيء في عالم اليوم، كان يُسجلُ ربحاً بالنقاط ببطء، وبصورة مستبانة أو غير واضحة. ملاكُنا الحارس خسر بالضربة القاضية منذ أن ظهرت قضية وباء كورونا، وتَسَيَّدت المشهد. والكلُّ مجمعٌ على أن كورونا هو الشر الكبير الذي سوف يعقبه أو يترتب على نتائجه، ما هو شرٌ منه وأقبحُ أثراً. إننا ندخل الآن من بوابة لحظة التاريخ "الخاملة".

يوشك العالم اليوم أن يخلص إلى انقسامٍ بين دائرتين من البشر؛ الأولى تضم العالم الأول، عالم الأغنياء والأقوياء، المتحصنين بالعلوم والتكنولوجيا والمعارف، والذي يبدو وكأنه لا قضية له، سوى الرفاهية والمال والمنافسة والمضاربة والهيمنة، ومزيد التقدم الخاوي من أي فحوى أو مضمون وجودي أو جوهر إنساني.

والثانية تضم مليارات من شعوب وأمم، يبدو أن فاتورة ديونها المستحقة التسديد، آجلاً غير آجل، غدت من الضخامة وكبر الاستحقاق، بحيث يُتوقع لها قريباً أن تعترف بإفلاسها وفواتها من كل ما تتطلبه حضارة اليوم وتشترطه، وأن تعلن قريباً، سراً أو علانية، عجزَها التام عن المضي في السفر نحو المستقبل، تحت أي ظرف وشرط، وضمن كل الإمكانيات المتوفرة. ومن لا ينتظر إلا حدوث معجزة، ليس عليه أن يتفكر كثيراً في الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل.

سورياً؛ لم تعد كورونا وطغواها تشكل فارقاً ذا قيمة تذكر. كلُّ ما عاشته سوريا في أعوامها المنصرمة، وكأنه كان حَمْلاً خارجَ الرحم، فلا المعارك فيها أثنت باغياً، ولا السياسات أجزت نكايةً في العدو، فتوالدت الأيام بالشؤم، وإن تفاءل بعضُنا، كلما دار الحديث عن حلٍ أو عن قرارٍ لوقف إطلاق النار، أو تلمسنا بصيص أملٍ أو أفقاً للنهاية من كل هذا الخراب الكبير. لقد كانت أعواماً سوداء. كالحة وربداء، تشبه الرحيل الجهنمي في قلب ظلام الأيام الفائتة.

وسورياً مرة أخرى، يجب أن نحزم أمرنا على الإصرار والمتابعة فيما يحمله القادم من الأيام، من أحداث وتطورات، وكلنا عزمٌ على ذلك، ويجب قبل ذلك أن نبدأ مراجعة هادئة متأنية، ونقداً ذاتياً شاملاً لكل ما جرى في سوريا، ومرَّ بها من أحداث وتفاصيل خلال أعوام الثورة الماضية، تطهيراً جديداً من أجل معمدانية الحرية من جديد، ولإعلاء شرف الضمير كي يبقى حياً في النفوس والأفئدة.

الناسُ باتوا اليوم منقسمين بين فرقاءَ ثلاثة: الأول بات متشبعاً بفكرة أن الثورة قد ماتت وشبعت موتاً، وهي اليوم ترقد في ثلاجة الموتى، تنتظر من يبادر أولاً ليعلن دفنها. وفريقٌ ثانٍ يعتقدُ بأن الثورة لا يمكن أن تموت، مهما أحدقت بها وبنا وبالوطن بمجموعه، من أخطار وجودية، وذلك لسبب بسيطٍ تسهل البرهنة عليه؛ وهو أن إمكانية العودة إلى لحظة ما قبل الثورة باتت مستحيلة بصورة أكيدة، رغم أنها لم تُنْجِزَ وعدها بعدُ بإسقاط عرش السلالة الأسدية وتحقيق الحرية، ورغم الأهوال والمخاطر الخارجية التي تعرضت لها، وما تزال، منذ البداية وحتى اليوم.. لقد زلزلت غابة الطغاة وشَلَّعَتْها من جذورها، فالأملُ في عودة الباسقات من قواعد الدكتاتورية الراسخة إلى تلك الجذور؛ مما غرس نظام الأسد، وما استنبته الطغاة خلال نصف قرن؛ أصبح محضَ هُراء.

أما الفريق الثالث فهو يختلف مع كلا الفريقين، ويعتقدُ بأن الحديث عن موت الثورة أو حيويتها واستمرارها وديمومتها، هو تلاعبٌ بالألفاظ لم يعد مفيداً ولا جدوى منه؛ والأصحُّ أن تُسمى الأشياء بأسمائها، وأن نحققَ القول ـ بدلاً من الحديث عن الثورة، وجوداً أو عدماً ـ بأن بلدَنا بات محتلاً ومُهيمَناً عليه، من قبل عديد القوى المسلحة والمسيطرة والمتحكمة بقراره واستقلاله على الأرض وفي واقع حياة الناس.

هذا السجال الجدالي لن يخلُص إلى نتيجة وإلى موقف رصين ونهائي، ولن يُقرّبنا من بعضنا كسوريين، مالم نقارب الرؤيا ونسدد أية خطوة فاعلة يمكن أن تظهر أو تؤسس لظهور أفق جديد، ومادام كلُّ فريق من الفرقاء راضياً بقراءته الخاصة لما جرى ويجري. وذلك لإنجاز جدل مجتمعي وحوار كفءٍ وبناء، لا مناص من إنجازه، ولن نجدَ من دونه ملتحداً. فما أقلَّ طلابَ الحرية الحقيقيين في هذا العالم. وأقلُّ منهم طلابُ الحرية الشجعان..!! وما أكثر العبيد في هذا العالم.. وأكثرُّ منهم العبيدُ الذين يشتغلون عمالاً في ورشة الشيطان، وفاكهةً في حدائقه وكرومه.. سخرةً وبالمجان..!!