لسنا العدو ولا هم مطبعون مع النظام.. الخارج والداخل السوري

2021.09.22 | 06:18 دمشق

_116102415_gettyimages-630678052.jpg
+A
حجم الخط
-A

"إخوتنا العرب يؤذوننا باتهاماتهم لنا بالعمالة والخيانة أكثر بكثير مما يؤذينا الاحتلال" هذا الكلام قاله لي ذات يوم صديق فلسطيني من عرب الـ 48 كنت أتواصل معه على الماسنجر قبل اختراع فيسبوك وبقية وسائل التواصل الاجتماعي.

 كان الحديث بيننا وقتها، على ما أذكر، يدور حول علاقة فلسطينيي الـ 48 مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، أتذكر أنه أخبرني أنه ليس فخورا بالجنسية الإسرائيلية التي يحملها، لكن خياراته في هذا الشأن معدومة، رغم أنه يعامل كإسرائيلي درجة ثانية أوثالثة، لكن على الأقل لديه بعض الحقوق المدنية.

 أتذكر أنه قال بمرارة: "أنا عربي، لساني مازال عربيا، أتحدث العبرية نعم وأحمل الجنسية الإسرائيلية، لكن قلبي عربي، ومع ذلك لطالما شعرت بأنني مكروه من إخوتنا العرب، أحاول التواصل مع الكثيرين، قلة فقط من يوافقون، هناك أحكام مسبقة علينا من قبل العرب، وهناك خوف أيضا من نتائج هذا التواصل، فقد يكتشف جهاز أمن ما في دولة عربية أن هناك مواطناً يتواصل مع دولة العدو، لا أحد سيغامر ويفعلها".

تذكرت تلك المحادثة قبل أيام، حين قلت لصديق قادم من سورية لمدة قصيرة "تعا نتصور سيلفي وننزلها على الفيسبوك ونكتب عليها الداخل والخارج معا"، فوجئت بجوابه على طلبي: "أنا قد أطلب للتحقيق عند عودتي، وأنت سوف تقوم قيامة الثوريين عليك، كيف تتصورين مع ....... وهو محسوب على النظام؟!".

في الحقيقة لم أفكر بكل ما قاله الصديق قبلا، فهذا الشخص صديق قديم، وهو مازال يعيش في سوريا شأن كثيرين، لا علاقة له بالنظام ولم يطبل له ولم يمدح ما فعله يوما، لم يعلن موقفا مؤيدا للثورة، حفاظا على نفسه وعلى عائلته، وليضمن استمرار وجوده في سوريا، فهو لا يريد مغادرتها، وهذا أمر لا يمكن سوى احترامه، أما أنه سوف يستدعى إلى التحقيق لأنه تصور معي فهذه مبالغة في الخوف على ما أظن، لم أشأ مناقشته فيها، لكن الحديث كله نبهني إلى أننا نتعامل مع من يقيم في سوريا حتى الآن، تماما كما تعامل العرب تاريخيا مع عرب الـ 48 في فلسطين المحتلة، فنحن، من خرجنا من سوريا بسبب مواقفنا ضد النظام، سواء من تم نفيه أو من هرب خوفا من الاعتقال والموت، امتلكتنا حالة من الاستعلاء الثوري تجاه من بقي في سورية، استعلاء لا يميز بين مؤيدي النظام وشبيحته، وبين باقي الشعب الذي لا يؤيد النظام، لكنه لم يجد في خطاب الثورة ما يجعله يدفع أثمانا باهظة مقابل تأييده لها.

هل هذا خطأ؟ في المنطق التاريخي أن الثورات عموما تحدث من أجل تغيير حياة شعب بأكمله، تغيير قوانينه السياسية والاجتماعية، تحسين معيشته، تمكينه من العدالة والحقوق، منح الفرص لأفراده جميعا، امتلاك زمام قراره، اختيار حقيقي لمن يمثلونه في الحكم، كل هذه الفضائل وغيرها، عادة ما تكون هدف الثورات الشعبية، وهو ما يفترض أن يجعل من كل أفراد الشعب المقهورين، الذين طالهم عصف نظام الاستبداد، وأغلق كل الآفاق المفتوحة أمام أبنائهم ومستقبلهم، وحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، وحولهم إلى أجراء في مزرعة متوارثة، لا مواطنين في وطن يحترم أبناءه الذين يعرفون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.

يُفترض أن يجعلهم كل ما سبق ينزلون إلى الشوارع مع من بادر بالنزول في أول الثورة، للمطالبة في التغيير المرجو، بيد أن الأمر لم يحدث على هذه الشاكلة في سوريا، ولا في أي بلد من بلدان الربيع العربي، ليس فقط بسبب عقود الخوف التي جعلت منا شعوبا وأفرادا متوجسين من أي حركة تخلخل الراكد في حياتنا، بل أيضا بسبب التركيبة المعقدة للشعوب العربية، التي لم تصل في مجملها إلى مرحلة الهوية الوطنية، بل مازالت تراوح في محيط الهويات ما قبل الوطنية، مما يجعل من الولاءات والاصطفافات تتبع الهويات الصغيرة لا الهوية الوطنية الجامعة.

أيضا كان لخطاب النخب المعارضة التي تصدرت لقيادة الثورات دور كبير في نبذ الكثيرين للثورات، إذ بدلا من البحث عن خطاب جامع ومتفهم للتركيبة الاجتماعية المعقدة في بلادنا، كان خطابها تراثيا يعود إلى القرون الوسطى في أهدافه وفي لغته ومفرداته، بينما ما تحتاجه بلادنا هو مجتمعات ونظم سياسية حديثة تتناسب مع حداثة المجتمعات المتقدمة، هذا الخطاب ساعد على إبعاد الناس عن الثورة، حتى لو كانوا في قرارة أنفسهم لا يطيقون النظام، فبالنسبة لهم، لا فرق بين النظام ومن يطرحون أنفسهم بدائل عنه، وليسوا بوارد تعريض أنفسهم وعائلاتهم للخطر الأمني، ولا يملكون رفاهية الرحيل عن البلاد، أو لا يريدون الرحيل أصلا عنها، وهو أمر ليس فقط يحترم بل هو ما يفترض أن يحدث، إذ ما من تغيير يأتي من الخارج، التغيير دائما من الداخل، أو على الأقل يحدث تواصل وتعاون بين الداخل والخارج لتحقيق تغيير مرجو.

هل حدث هذا في سورية؟ للأسف أبدا، بل حصل العكس تماما، منذ البداية حصل تنافر بين النخب المعارضة في الداخل وتلك الموجودة في الخارج، وصل إلى حد تبادل الاتهامات، ما انعكس لاحقا على الأداء الشعبي للثورة، والذي وصل إلى ما وصل إليه من تأخر لنجاح الثورة، وسقوط الوطن ككيان ومجتمع، ووقوع سورية تحت سيطرة احتلالات مختلفة مع بقاء النظام، كواجهة لا يرغب المجتمع الدولي بإزالتها حتى الآن، بيد أن هذا ليس كل شيء، فالأكثر بؤسا هو ما وصل إليه حال السوريين في الداخل والخارج، فمع منع كل من أيد الثورة من العودة إلى البلد تحت طائلة الاعتقال، رغم ترويج النظام لعكس هذا، ومع الظروف المعيشية الكارثية التي وصلت إليها حال السوريين في الداخل، تطور الخطاب السوري بين الداخل والخارج ليتحول إلى خطاب اتهامي تخويني، من في الداخل معظمهم يعتبر أن الهاربين قد نجوا من الجحيم السوري ويعيشون في دول لجوئهم متمتعين بكل مقومات الحياة، ومن في الخارج يعتبرون أن من بقوا في سورية هم مجرد خانعين ومطبعين مع النظام، والاتهامات المتبادلة لا تتوقف، وكأنها حرب جديدة، مع أن من حق الجميع اختيار ما يريدون لحياتهم، من حق من خرج أن يعيش حياته دون اتهامات من أحد، ومن حق من بقي في سورية أن يواصل حياته حتى لو كان كل ما يفعله مرتبط بالنظام، لا يتحمل هو مسؤولية عدم رحيل النظام، مثلما لا يتحمل من في الخارج مسؤولية ما حدث في سورية، بيد أنه في الوقت نفسه يصبح من العار والمعيب أن يشمت من يعيش في الخارج بحال سوريي الداخل، وهو ما يحدث كثيرا للأسف، عدا طبعا عن الشتائم التي تكال لكل مبدع سوري يعيش في الداخل لمجرد أنه يواصل حياته دون أن ينطق حرفا واحدا داعما للنظام.

ورغم أن النظام لا يختلف مطلقا عن أي دولة احتلال، فما فعله بسوريا وبالسوريين لا تفعله حتى أكثر الاحتلالات إجراما، فإن التعامل مع سوريي الداخل كما لو أنهم مطبعون للنظام أو مبيضون لسمعته هو خطأ كبير سوف يدفع الجميع ثمنه، فهؤلاء يحملون جنسية بلدهم، وليس ذنبهم أن نظاما كهذا هو من يتحكم بكل تفاصيل حياتهم من رزقهم حتى أوراقهم الرسمية، ولكن مهلا! أليس الكثيرون ممن هم في الخارج مازالوا يستخرجون جوازات سفر من سفارات النظام؟! هل هم مطبعون ويعيدون تدوير النظام أيضا؟ هل لديهم حلول أخرى؟ هل لدينا جميعا حلول أخرى؟.