لبنان والعراق عدّو واحد ومهام متشابهة

2019.12.24 | 17:04 دمشق

images_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

يميل الحالُ في لبنان إلى أخذ المسار العراقي رويداً رويداً، فقد ضربت الطبقة السياسية الحاكمة مطالب اللبنانيات واللبنانيين بعرض الحائط، وصمّت أذنيها تماماً عن سماع أصوات المتظاهرين في الشوارع والساحات. إضافة لذلك سمحت لقطعان الشبيّحة من أتباع برّي ونصر الله استهدافهم في أماكن اعتصامهم وتظاهرهم، لا بل زادت على ذلك باستخدام عنف متصاعد ضدّهم على يد أفراد القوى الأمنيّة والجيش. وتبعت ذلك بإجراءات تشكيل حكومة من نفس الطيف السياسي الحاكم بعد تكليف حسان دياب بذلك، وكأن ما يحدث في البلد لا يعنيها أو لا يتعلّق بها، وكأنّ المظاهرات والاعتصامات موجّهة ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة في كولالامبور أو في سيدني!

في العراق تستمرّ عمليات القمع والالتفاف على إرادة العراقيّين بشتى الطرق، كما يتمّ التنكيل بهم واستهدافهم بعنف شديد قنصاً وطعناً وخطفاً على أيدي مليشيات الحشد الشعبي، التي تقوم بذلك وضح النهار وتحت أعين ورقابة أجهزة الأمن والشرطة والجيش. ومن يقرأ كتاب الاستقالة التي قدّمها رئيس الحكومة عادل عبد المهدي إلى البرلمان يجد أنّه لا يحترم ليس الشعب فقط ولا البرلمان بل لا يحترم نفسه أيضاً. فمن يسترشد بإرادة مرجع ديني، ويلتفت عن إرادة الشباب العراقي الثائر منذ أشهر في الشوارع، هو قطعاً لا يمكن أن يمثّل هذا الشعب بل ولا ينتمي إليه. وهنا تكمن الطامّة الكبرى في عقليّة هذه الفئات المتسلّطة على رقاب العراقيين واللبنانيين. إنّه الولاء للفئويّة المحدودة وما تستلزمه من طائفيّة، والتي هي بأفضل أحوالها حالة تقسيميّة تُجزّء الأوطان وتفتّت المجتمعات إلى بنى منعزلة ومتناحرة.

ثمّة بعض الاختلاف في بنية السلطة الحاكمة في لبنان عنها في العراق، ففي الأول قامت على المحاصصة الطائفيّة في متصرفيّة لبنان منذ أيام الحكم العثماني، وتوسّعت لتشمل لبنان الكبير بعد انفصاله عن سوريا إثر الانتداب الفرنسي، والتي تعزّزت عملياً في اتفاق الطائف الذي رتّب تفاصيل إنهاء الحرب الأهلية وأعاد رسم توازنات القوى المجتمعية والسياسية بحراب البنادق وفوّهات المدافع. بينما في الثاني تقوم السلطة ببساطة

وُجد في لبنان على الدوام توافق بين زعماء الطوائف على تقاسم الثروات

على قاعدة التبعيّة المطلقة للمحتل الأجنبي. ابتدأت بالأمريكي الذي أوصل نخبة لا وطنيّة من المعارضة إلى سدّة الحكم، وانتهت بالإيراني الذي سيطر على جميع مفاصل الدولة المدنية والعسكرية، بل أكثر من ذلك أتبع سيطرته هذه بإنشاء كيانات سياسية وعسكرية ذات لبوس ديني طائفي تأخذ أوامرها مباشرة من قادة الحرس الثوري الإيراني.

وُجد في لبنان على الدوام توافق بين زعماء الطوائف على تقاسم الثروات، وعندما حاول اليسار القومي اللبناني تغيير حصّة الموارنة، أو تعديل السيطرة المارونية لتتناسب مع الحجم الفعلي لهذه الطائفة، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية وكان من نتائجها المباشرة، إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد أن احتلّت إسرائيل أوّل عاصمة عربيّة، وتمّ تكريس هيمنة حافظ الأسد عليه، ومن ثم جرى إنشاء كيان حزب الله السرطاني بدعم إيراني وبموافقة حافظ الأسد للقضاء على المقاومة اللبنانية الحقيقية.

بعد انتفاضة الأرز عام 2005 وبعد خروج جيش الأسد مكرهاً من هناك، كشّر حزب الله عن أنيابه وسيطر مباشرة على مفاصل الدولة بعد أن افتعل حرب تمّوز للتغطية على اغتيال رفيق الحريري. لقد كان احتلال بيروت عام 2007 فيما عرف بأحداث أيار التتويج النهائي لسيطرة إيران على القرار هناك بعد أن كانت تتشارك السيطرة مع نظام الأسد. وبذلك أصبحت بقيّة القوى السياسية مضطرّة للمشاركة في الحكم تحت وصاية حزب الله. نتيجة تضييق إدارة ترامب الخناق على نظام الملالي في طهران، بات حزب الله مضطرّاً للاهتمام بالشأن الحكومي اللبناني حتى يتمكّن من تمويل نشاطاته. فبعد أن كان يتلقى موازنته من إيران مباشرة باعتراف زعيمه، أصبح يبحث عن شراكات في ملفات الفساد التي كان يتركها للسياسيين من بقيّة الطوائف. كيف سيتمكن من مواصلة تقديم الرعاية

لا يوجد في العراق ولبنان مركز قوة واحد يمكن من خلال إسقاطه البدء بعمليّة التغيير الشامل

الاجتماعية لأنصاره من خدمات طبيّة ووظائف ومساكن وغيرها بعد أن تقلّص إلى أدنى حدّ تمويل إيران؟ لقد أجبر على المشاركة في عمليّة النهب والفساد لموارد الدولة اللبنانية.

في العراق كان الوضع مختلفاً، فمهمة أتباع إيران كانت تمويل ميليشيات نصر الله والحوثي والهزارة والحشد الشعبي من ميزانيّة العراق لتحقيق أهداف إيران التوسعيّة في السيطرة على المحيط العربي الرخو. ما كانت تدفعه إيران لحزب الله اللبناني كان في الحقيقة من أموال الخزينة العراقيّة. لنلاحظ التصريحات الأخيرة للشيح محمد كوثراني مسؤول ملف العراق في حزب الله الذي أجرى مشاورات مع كل من كتلة الفتح بزعامة هادي العامري وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي ومع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي والنائب أحمد الجبوري بهدف تأمين تمويل حزب الله من الخزينة العراقية.

المأساة كبيرة في كلا البلدين، ومسؤولية التغيير الواقعة على عاتق الشباب الثائر أكبر. لا يوجد في العراق ولبنان مركز قوة واحد يمكن من خلال إسقاطه البدء بعمليّة التغيير الشامل، وهذه أكبر عقبة أمام الثورة هناك. في لبنان كما في العراق تتشابك المصالح الطبقيّة بين الأسر الحاكمة مع المصالح الإقليمية والدولية لتشكّل حلفاً وثيقاً في وجه التغيير. تلبس مصالح زعماء الطوائف لبوس مصالح أبناء الطائفة التي يمثلونها، وهنا يصبح الخروج على هذه الزعامة بمثابة الخروج من الطائفة ذاتها، التي تشكّل صلة المواطن بدولته نتيجة غياب مفهوم دولة المواطنة، وبالتالي الانتماء إليها مباشرة عبر صفته كمواطن.

 في العراق تمّ تقسيم المواطنين بعد سقوط الدولة إلى ثلاثة فئات، الأولى تحكمها عائلتان تاريخيتان كرديّتان بالتوارث وتمثّل مصالح أفرادها، ولكنها بطريقة أو بأخرى ولأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، استطاعت تحقيق بعض المصالح العامّة للفئة التي تمثّلها. الثانية استولت قيادتها نظرياً على مقاليد السلطة تحت شعارات واضحة من الانتقام والإقصاء الذي وجهته للفئة الثالثة، وتقاسمت مجموعة منها ثروات البلاد فيما بينها وأعملت فيها يد الخراب، وكانت أبشع مثال للتبعيّة للمحتل الأجنبي. الثالثة تمّ تحميلها المسؤولية التاريخية عن الظلم الذي حاق بالعراقيين خلال فترة الحكم الاستبدادي، وتمّ بناءً على ذلك إقصاؤها من الحياة العامّة بشكل ممنهج، وفُصِّلت القوانين والتشريعات خصّيصاً لذلك، مثل قانون اجتثاث البعث وقانون الإرهاب، حيث تمّ تطبيقها بانتقائيّة مقصودة شملت أبناء هذه الفئة دون غيرهم من البعثيّين. وعندما حاول أبناء هذه الفئة تغيير واقعهم تمّ اتهامهم بالإرهاب بعد أن سُلمت مناطقهم لداعش.

طريق التغيير طويل وشائك، وهو بالتأكيد سيطول ويتعقّد أكثر وسيمتلئ بالمعوّقات كلما تأخرت الثورة في إنجاز مهامها، لكنّه في النهاية الطريق الوحيد المتاح ومن خارج نظام الحكم ورغماً عنه، وبآليات غير الآليات الديمقراطية المعتادة، بعد أن أغلق هذان النظامان جميع المنافذ أمام مجتمعيهما للخروج من دوّامة التبعيّة والفساد والاستبداد. ويبدو أنّ اللبنانيين والعراقيّين مصرّون على قطعه حتى النهاية، فكان الله بعونهم وكفاهم شرّ الأصدقاء قبل الأعداء.