لافروف في ثوب الواعظ.. حلال لنا حرام عليكم

2021.09.13 | 06:07 دمشق

19005340_303.jpg
+A
حجم الخط
-A

"الشخص الذكي يتعلم من الأخطاء وخاصة من أخطائه" نصيحة أطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخرا تعليقا على الأوضاع في أفغانستان.

ومن المؤكد أن سنوات العمل الطويلة تكسب الحكمة، وهذا حري بوزير خارجية دولة كبرى لمدة سبعة عشر عاماً، وقبلها نائباً لوزير الخارجية ومندوباً دائماً لروسيا في الأمم المتحدة، وفي جعبته خبرة طويلة من العمل في الحقل السياسي، منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث تدرَّج في المناصب الدبلوماسية إلى أن أصبح رابع وزير للخارجية الروسية عام 2004 وببقائه في منصبه حتى اليوم يسجل رقماً قياسيا، ولا أحد يعرف متى سيكون لروسيا وزير خارجية خامس. وإضافة إلى كل ما سبق فإن للدبلوماسي الروسي السبعيني المخضرم ذي الملامح الصارمة، وجه آخر فهو شاعر وموسيقي ورياضي.

وفي إطار درامي لا يخلو من التصنع، صرَّح لافروف، نهاية الشهر الماضي بأنه لا يستطيع الإجابة على سؤال طرحته طفلة في مدينة فولغوغراد "أيها الكبار متى تلغون الحرب؟".

السؤال جاء في أغنية أدتها الطفلة في لقاء أجراه لافروف مع ممثلي المجتمع المدني ومحاربين قدامى في متحف "معركة ستالينغرد" بمدينة فولغوغراد، 30/8/2021. وفي رده على السؤال قال، وهو يحبس دموعه، على حدّ وصفه إنه "من الصعب بالطبع الإجابة على سؤال حول متى نلغي الحرب.. وربما لو اعتمد الأمر علينا لحدث ذلك في وقت قريب".

التصريحات اللاحقة تكشف أن الوزير لا يعمل بنصيحته التي أطلقها، وليس في وارد الاستفادة من الدروس، أو التقدم بخطوة لإنهاء الحروب

ويمكن أن يستشف من كلام الدبلوماسي "الحاذق مرهف الإحساس" أن هناك بارقة بشرى للسوريين والليبيين والأوكرانيين، فليس خفيا على أحد أن أمر إنهاء الصراعات الدائرة في هذه البلدان يعتمد إلى حدّ بعيد على الدور الروسي، الداعم لنظام الأسد في سوريا، ولخليفة حفتر ليبيا عبر مرتزقة فاغنر التي تنفذ أجندات وزارة الدفاع الروسية بشكل خفي، وللانفصاليين في شرق أوكرانيا.

وبعيدا عن التجربة الطويلة من المراوغة الروسية، وأسلوب قلب الحقائق فإن التصريحات اللاحقة تكشف أن الوزير لا يعمل بنصيحته التي أطلقها، وليس في وارد الاستفادة من الدروس، أو التقدم بخطوة لإنهاء الحروب. ففي تصريحات في 2 سبتمبر/ أيلول الجاري ينقل لافروف النصيحة إلى التحليل وتقديم رؤية استراتيجية يقول لافروف "هذه نهاية حقبة العمليات العسكرية"، وربما يخيل للقارئ للوهلة الأولى أن روسيا على لسان وزير خارجيتها تريد التعلم من أخطائها، وربما تعيد مراجعة حساباتها، لولا أن لافروف يستدرك بأن المقصود من كلامه "نهاية حقبة العمليات العسكرية لنشر الديمقراطية" بانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.

وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عزف على المنوال ذاته في مقابلة له مع قناة "سولوفيف لايف" الروسية على "يوتوب"، 29 أغسطس/ أب الماضي، بالقول إن "روسيا التي تنفذ مهامَّ في دول أجنبية، توضح دائماً لشركائها أن هدفها الرئيسي هو دعمهم، وليس فرض حكومة جديدة عليهم". وأضاف: "نحن لا نحاول فرض "أسس ديمقراطية" كما يفعل البعض"، وهذا سر نجاحنا في سوريا، حسب زعمه.

إذاً؛ نصيحة لافروف ليست معنية بها روسيا، بل الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، فموسكو تعرف ماذا تريد من وراء تدخلاتها العسكرية الخارجية، وتعلنها صراحة أنها تدعم أنظمة الحكم الديكتاتورية القائمة وبقايا الأنظمة البائدة، وتعادي أي تغيرات ديمقراطية في البلدان التي تتحالف مع أنظمتها مثل سوريا، أو دعم جماعات مسلحة فيها مثل ليبيا وأوكرانيا، من موقع التبعية للأجندة الروسية.

وباعتقاد لافروف إذا تعلم الغربيون دروس أفغانستان "فمن المحتمل أن يصبح العالم أكثر هدوءا بعض الشيء". لكنه يستدرك قائلاً إن "الغرب سيواصل بشكل واضح فرض قيمه على الآخرين".

أصاب لافروف بإشارته إلى أن الأميركيين والغربيين يجب أن يتعلموا من دروس الفشل في أفغانستان بعد احتلال دام 20 عاماً، والذي مرده، بالتأكيد، ليس السعي لـ "نشر الديمقراطية"، بل محاولة قهر إرادة الشعب الأفغاني وإلحاقه بعجلة التبعية، فالولايات المتحدة الأميركية كانت على امتداد تاريخها أبعد ما تكون عن نشر قيم الديمقراطية والعدالة والديمقراطية والسلم، وقائمة الأمثلة على ذلك طويلة من فلسطين إلى فيتنام إلى العراق والصومال إلى أميركا اللاتينية وغيرها.

ومن هذه الزاوية تخطئ الإدارة الأميركية الحالية والإدارات القادمة إذا لم تستخلص العبر من دروس أفغانستان، وقد أخطأت الإدارات السابقة في قراءة دروس فيتنام. وفي الوقت عينه يخطئ الكرملين إذا لم يتعلم من أخطاء الولايات المتحدة في أفغانستان التي تشبه إلى حدّ بعيد في بعض جوانبها أخطاء الاتحاد السوفيتي في تدخله العسكري بأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.

الحروب الأميركية أودت بأرواح مئات الألوف من المدنيين في فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها تحت شعار الدفاع عن الديمقراطية.

ولكن في المقابل، فإن الطائرات الروسية قتلت قرابة 9 آلاف مواطن في سوريا، بينهم 2000 طفل و1300 امرأة، منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سبتمبر/ أيلول 2015. وروسيا بدعمها نظام بشار الأسد شريكة معه في قتل 389 ألف شخص، منهم 117 ألف مدني، من بينهم 22 ألف طفل، و14 ألف امرأة، و81 ألفا من الرجال. وعشرات الآلاف الذين قضوا في معتقلات النظام، وإصابة 2.1 مليون شخص بجراح تسببت لكثير منهم بإعاقات دائمة، وتهجير 13 مليون شخص إلى مناطق اللجوء والنزوح داخل البلاد وخارجها. حسب أقل الإحصاءات.

والسؤال، لماذا لم تجعل كل الجرائم السابقة، أو أي مسؤول روسي، "يحبس دموعه"، ولا حتى التفكير للحظة بوقف الحرب على الشعب السوري، والأخذ بنصيحة "الشخص الذكي يتعلم من الأخطاء وبالأخص من أخطائه"؟ فالسياسات الخارجية الروسية والأميركية وجهان لعملة واحدة، وجهها الروسي يدافع عن الأنظمة الديكتاتورية ويخوض الحروب إلى جانبها ضد الشعوب بذريعة "الحفاظ الاستقرار وحماية الأقليات الدينية" ومحاربة الإرهاب، ووجهها الأميركي يشن حروباً دموية تحت أكذوبة "نشر الديمقراطية" ومحاربة الإرهاب أيضاً.

أن يكون المرء رساماً أو شاعراً أو موسيقياً لا يعني أن يكون انحيازه في السياسة محكوماً بضوابط إنسانية وأخلاقية. وفي هذه الحال لا يشكِّل لافروف الشاعر والموسيقي والرياضي استثناء

أخيراً أخذاً بمقولة الشيء بالشيء يذكر، الرسام الإسباني الكبير سلفادور دالي كان من المؤيدين للديكتاتور الجنرال فرانكو، وكذلك فعل العديد من كبار الشعراء والموسيقيين والرياضيين الإسبان، رغم الجرائم المروعة التي ارتكبها فرانكو.
أن يكون المرء رساماً أو شاعراً أو موسيقياً لا يعني أن يكون انحيازه في السياسة محكوماً بضوابط إنسانية وأخلاقية. وفي هذه الحال لا يشكِّل لافروف الشاعر والموسيقي والرياضي استثناء، ولكنه يوظف إمكاناته البلاغية وعباراته الدبلوماسية المنمقة للدفاع عن أعتى الدكتاتوريات والقتلة من أمثال الأسد، والتغطية على جرائم يندى له جبين العالم إلا جبين لافروف وأمثاله الذين لا يستطيعون تسويق تصريحاتهم العلنية، وانفعالاتهم إلا عند من يعتقدون أنه يمكن تغطية الشمس بغربال، أو يغمضون أعينهم عن جرائم النظام بدعم ومشاركة من روسيا التي يقلد وزير خارجيتها هذه المرة دور الثعلب في لباس الواعظ.