لا حياة للإنسان المستقيم في بلاد الفساد والضحك على اللحى

لم يشأ أن يغيّر مسار سيارته، كالآخرين، لأنه يعتقد أنه رجل نظامي. نفّذ كل تعليمات المرور بحذافيرها. لذلك لم يأبه لدورية المرور التي تعترض السيارات لتفحّصها.

مرت قبله سيارة خالية من البللور الخلفي.. أخذت الدورية شيئاً ما من داخل دفتر السيارة وتركتها تمضي. حين وصل أمام الدورية أبرز أوراقه النظامية، ولكنه فوجئ بأن أحد العناصر يمسح بإصبعه على زجاج السيارة الجانبي ثم يحرر له مخالفة.

أراد أن يسير بطريق مستقيمة لأنها أقصر الطرق، ولم يلتف ليتجنب الدورية، لكنه -أيضاً- لم يتعلم كيف يضع شيئاً ما داخل أوراق السيارة لتتيسّر أموره أيضاً.. عندما شاء أن يعطي بعض الدروس الخاصة في غرفة من منزله.. جاءته الدورية وسجلت غرفته معهداً.. وأغلقتها بالشمع الأحمر.. راجع الدوائر الرسمية وقام بالإجراءات اللازمة.. لكنّ الرجل المتخصص بالتوقيع النهائي ذيّل الورقة بجملة "للتريّث" وهذا يعني بقاء الغرفة مغلقة حتى إشعار آخر.. هل يعلم صاحب التريّث أنه وقّع على إغلاق هذه الغرفة بأربعة أختام من الشمع الأحمر.

المعاهد الكبيرة غير المرخصة ما تزال تقوم بعملها كالمعتاد.

كثير من المعاهد الموصى بإغلاقها جاءت حاشيتها من قبل الدورية

أخيراً.. أدرك أن الطريق المستقيم في البلاد المعوجّة هو أقرب الطرق إلى الهاوية.

المكلفة بالمراقبة: لم نعرف العنوان.. أو المعهد لا وجود له.. أو المعهد مغلق ولا يمارس عمله. والسبب أن أصحاب تلك المعاهد وضعوا شيئاً ما داخل الأوراق التي قدموها للدورية.

غير أن صاحبنا مستقيم.. وما يزال يظن أن الاستقامة هي أقرب الطرق إلى الفلاح.

أخيراً.. أدرك أن الطريق المستقيم في البلاد المعوجّة هو أقرب الطرق إلى الهاوية.

باع ممتلكاته.. لملم أوراقه.. غادر البلاد التي كان يحبها تاركاً البلاد للسادة الأفاضل الذين تعودوا أن يأخذوا دائماً شيئاً ما من داخل أوراق المواطنين، ويضعوا ثقل القانون على الذين لم يتعلموا -بعد- كيف يدفعون المعلوم لأولئك التافهين.

عندما وصلته الجريدة الرسمية التي تصدر في الوطن، تلقفها وبدأ يقرأها بنهم، وها هو يتأمل الصحيفة بدءاً من التاريخ: الأول من أيلول، ألفان وخمسة وعشرون...

بعد غياب عن الوطن طال عشرين عاماً لم تصل الجريدة خلاله إلى بلاد اللازورد حيث يعيش.

تنقل بين العناوين الأساسية وبخاصة تلك التي تركّز على هموم المواطنين ومشكلاتهم فقرأ فيها:

تلقينا تأكيدات حاسمة بأن المؤسسة العامة للخطوط الحديدية ستدرس مشروع نقل سكة القطار من وسط المدينة إلى أطرافها لتخلص الناس من التلوث والضجيج والحوادث الكثيرة، التي يقع الأطفال الذين يعبرون السكة ضحايا لها، كما أكدت البلدية أن سوق الهال سيتم
نقله قريباً وفق الخطة التي أبدت جدواها والتي كان اقترحها بعض مخططي المدن عام 2005.

أما (باب جنين) فسوف يتخلص قريباً من الازدحام والأوحال ومن المطاردة المستمرة بين البائعين ومكافحي المخالفات.

ومن جهة وزارة التربية فقد قررت أخيراً دراسة خطة متكاملة بالتعاون مع وزارة التعليم العالي لتقديم صيغة مبسطة للقبول الجامعي لا يرهقه التثقيل والمفاضلات المعقدة التي تتعب الطلاب، كما ستدرس مسألة إلغاء الاعتماد على معدل الصف الثالث الثانوي وحده في قبول الطلاب. ومن جهة أخرى أكد وزير الإعلام أن قانوناً جديداً للمطبوعات سيصدر خلال عشرين عاماً تكفل بموجبه الوزارة حرية الصحافة والمطبوعات لترسيخ قيم الديمقراطية التي أبدت جدواها بعد وضعها على المحك طيلة ألفين وخمسمائة عام.

لكن الأهم من ذلك كلّه هو الخدمات الأساسية التي يجب أن تتوافر للمواطن، فقد اكتُفي بقطع الكهرباء لمدة خمس ساعات يومياً فقط، وسيتم العمل على توفير المياه لمدة عشر ساعات على الأقل كل يوم.

واستكمالاً للسهر على راحة المواطن فقد بدأت الحكومة بخطة زيادة الرواتب ورفع الضرائب عنها بحيث يصبح أجر العاملين في الدولة كافياً لأكثر من عشرة أيام في الشهر.

ومن جهة القضاء فقد أكد وزير العدل أن القضاء سيصبح بمنأى عن تأثيرات الأحزاب والحكومات، وأنه سيغدو نزيهاً وعادلاً خلال فترة لا تتجاوز خمسين عاماً، وذلك بعد وضع خطة للإسراع في إجراءات الدعاوى ومعاملات الزواج والطلاق، بحيث لا تتجاوز الدعوى مهما تكن معقدة، خمسة عشر عاماً، أما الدعاوى البسيطة فيمكن إنجازها والبت فيها خلال خمس سنوات فقط. وقد يسأل المواطنون وهذا حقهم، قد يسألون عن وضع التعليم، وهنا يجب أن نطمئنهم بأن التعليم سيكون حراً ومتطوراً ويعتمد على التقنيات الحديثة، ولن تستمر مناهج التعليم المتخلفة بل سيُترك لكل معلم ومدرس اختيار الكتب التي يراها مناسبة لصفّه، على أن يكون ذلك بعيداً عن المحرّمات التي خفضناها من ثلاث محرّمات إلى واحدة فقط، وهي البعد عن السياسة لأن السياسة تتعلق بأمن المواطن والوطن، والوطن شخصية اعتبارية لا يمكن لأحد أن يبدي رأياً فيه مخالفاً لأولي الأمر الذين هم خليفة الله في أرضه، أما الدين فهو شأن بين العبد وربه وهو الذي يعاقب عليه. كما أن الجنس هو مسألة متعلقة بالحرية الشخصية وعلى المرء أن يعرف مصلحته وأن يحرص على عدم إصابته بالإيدز والأمراض الأخرى التي قد تقوده إلى التهلكة.

 لم يكن يصدق ما يقرأ ... تفحّص التاريخ جيداً: الأول من أيلول سنة ألفين وخمس وعشرين.

تناول صحيفة جلبها معه من الوطن وفيها اسمه بين الحاصلين على الشهادة الإعدادية عام /1972/، وأذهله أن ما كتب منذ ذلك الوقت ما يزال يُكتب حتى الآن.. حتى عام

/ 2035/ وما نزال نتلقى الوعود نفسها.

مالم يكن بالحسبان أن عشرة أعوام من الربيع العربي لم تغيّر شيئاً

نحن نعاني من حساسية مفرطة تجاه التلوث.. والضجيج.. و(الضحك على اللحى)، ويبدو أنه لا حياة للمستقيم في البلاد المعوجّة.

باستثناء قناع السلطة الذي سقط وبأن الوجه الحقيقي لها، فلم تكن الجيوش تبنى لمقارعة العدو الخارجي، بل كانت تعدّ لقمع المواطنين بكل وحشية وهمجية في سبيل الحرص على كرسي الحكم.

لم تتورع السلطة عن قتل الملايين واعتقال مئات الآلاف وتدمير المدن والقرى كي تبقى الأسرة الحاكمة حاكمة إلى الأبد، تتمتع بكل الامتيازات على حساب المواطنين الذي لا تراهم سوى رعاع وجدوا لخدمة السلطان.

تناول الهاتف.. اتصل بأخيه: لقد غيّرت رأيي.. لا أستطيع الآن القدوم إليكم.. لعلّ حفيدي يتمكن من زيارتكم قبل وفاته.. فنحن نعاني من حساسية مفرطة تجاه التلوث.. والضجيج.. و(الضحك على اللحى)، ويبدو أنه لا حياة للمستقيم في البلاد المعوجّة.