لا تصالح

2020.03.01 | 23:11 دمشق

ly_hydr.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد انشقاقه مؤخراً، جاءت الكلمة المصورة لمدير مكتب وزير المصالحة الوطنية أشبه بالنكتة! فاستناداً إلى الرجل الذي قدّم نفسه باسم عاهد أبو زيد؛ تتألف «الوزارة» من ستة عشر موظفاً فقط، وتملك خمس سيارات يستحوذ «الوزير» على ثلاث منها، وكل من مرافقه ومدير مكتبه على أخرى. أي ما يساوي أو يقل عن مفرزة أمنية متواضعة.

في حزيران 2012 أُنشئت وزارة الدولة هذه. وفي تموز وقف المكلّف بها، علي الشيخ حيدر، أمام ما يسمّى «مجلس الشعب» ليشرح برنامجها الذي بدا استراتيجياً وطموحاً للغاية: التعبير عن إرادة جديدة راسخة للقيادة السياسية والعمل على تنفيذها. وقف نزيف الدم ودعوة جميع المواطنين إلى دخول العملية السياسية. وضع نهاية لأسباب الانقسام والنزاع بين السوريين. تهيئة الأجواء والدعوة إلى مؤتمر حوار وطني. بناء دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية والإصلاح المؤسساتي بما يكفل عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وضع مشاريع قوانين أو إجراءات من شأنها إما حل المشكلات مباشرة أو التأسيس لذلك وفق بنية تشريعية تصدر عن البرلمان وبمراسيم، إضافة إلى الحق في رفع اقتراح بإصدار مرسوم عفو خاص وقوانين العفو العام. تأسيس لجان مهمتها دراسة أثر الإجراءات الاقتصادية والسياسية للحكومات السابقة لتحديد أسباب انتهاكات حقوق المواطن واقتراح توصيات كفيلة بمنع تكرارها. تلقي شكايات المواطنين ومظالمهم. النظر في أداء المؤسسات والمسؤولين العموميين في مجال حقوق المواطن وعلى الأخص القضاء والشرطة والأجهزة المختصة والسجون. الاستفادة من المنظمات الشعبية والطلابية والشباب والمرأة. استقبال آراء الخبراء والمختصين والمغتربين. العمل مع باقي الوزارات لحل المشاكل المتعلقة بالفلاحين والحرفيين والصناعيين والتجار والموظفين. متابعة أوضاع الموقوفين على خلفية «الأحداث الأخيرة» مع الجهات المختصة ووزارة الداخلية والعمل على معالجة أوضاعهم وإطلاق سراحهم. تفعيل موقع إلكتروني تفاعلي لتلقي الشكاوى والابلاغ عن التجاوزات وتقديم الخدمات. وأخيراً إنشاء مديريات وشعب للتخطيط والدراسات الاستراتيجية والمفقودين والموقوفين والمهجرين وإعادة تأهيل المناطق المتضررة والإغاثة الداخلية والخارجية والتعويضات...

رغم أن الوزير ليس بعثياً، إلا أنه يجيد اللغو.

ولد علي الشيخ حيدر في مدينة مصياف التابعة لحماة عام 1962. درس الطب في جامعة دمشق واختص بجراحة العيون. انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وصعد فيه بسرعة، بفعل نشاطه الملحوظ وعلاقاته الأمنية المتوسعة، حتى ترأس انشقاقاً فيه عُرف بجناح «الانتفاضة»، قبل أن ينتفض السوريون وبينهم نجله البكر إسماعيل الذي سيلقى مصرعه قرب أحد حواجز الجيش. يؤكّد مطلعون أن النظام قتل الشاب الثائر، وصديق معه، فيما صرّح الأب أن «الإرهابيين» من فعلها، مُعرباً عن استعداده لتقديم عائلته «كي تحيا سوريا»!

سيكلَّف الدكتور بوزارة المصالحة، بوصفه والد شهيد، فضلاً عن تاريخه كـ«معارض» تحت قبة «مجلس الشعب»! وبسرعة كذلك ستسقط صفة «الشيخ» من كنيته

لم يكن هناك داعٍ لتقديم أحد آخر، فبعد وقت قياسيّ من هذا التصريح سيكلَّف الدكتور بوزارة المصالحة، بوصفه والد شهيد، فضلاً عن تاريخه كـ«معارض» تحت قبة «مجلس الشعب»! وبسرعة كذلك ستسقط صفة «الشيخ» من كنيته، والدالة على وجاهة سابقة موروثة عن أجداده من الطائفة الإسماعيلية، ربما تنفع للمصالحة، ليتطابق اسمه الرائج «علي حيدر» مع اسم القائد الدموي الشهير للوحدات الخاصة، وإحالات قمعية لم يتأخر في التعبير عنها.

من مرافعته الطويلة أمام «مجلس الشعب» لم يحقق الوزير شيئاً، ولا حتى إطلاق موقع إلكتروني للوزارة التي اقتصر حضورها على صفحة فيسبوك. لكنها، كما بات حيدر يقول، «تواكب الانتصارات» التي يحققها الجيش، لأن هذه الإنجازات الميدانية تسرّع من وتيرة المصالحات المحلية! وبعد أن كان تعهّد بالتواصل مع الجميع ها هو يبرر جهل وزارته بأعداد المحتجزين لدى «جيش الإسلام» بأن «الدولة» لا تتعامل مع «المسلحين»، وخاصة هؤلاء في دوما، لأن أكثرهم «مرتبطون بمشروع خارجي ولم تعط التعليمات لهم بعد للدخول في إنجاز تسويات»، قبل أن تتكفل الآلة العسكرية والتفاوضية الروسية بتهجيرهم إلى إدلب، التي توعّدها وزير المصالحة بشن «حرب مفتوحة» في إطار اضطلاع «الدولة السورية بمسؤوليتها في مواجهة الإرهابيين» في سائر أنحاء البلاد.

والحقّ أن مركز المصالحة الروسي سحب كثيراً من البساط الضئيل الذي يقف عليه الوزير، بتوليه شؤون إخراج المقاتلين، ومن يرغب من السكان، في محيط دمشق وغوطتها وحلب وحمص ودرعا وسواها. ولم يترك لحيدر سوى رقم هاتف ليتصل به ذوو المعتقلين والمخطوفين والمفقودين، وساعة ونصف من ظهيرة يوم الاثنين من كل أسبوع، يستقبل فيها بعض الأهالي، بناء على موعد مسبق.

ولكن هل كانت إنجازات الوزارة صفراً، كما صرّح موالون غاضبون لم يعلموا شيئاً عن مفقوديهم بعد تهجير «جيش الإسلام» من الغوطة؟ يخبرنا مدير المكتب المنشق أن الجواب لا. فقد كان من صلاحياتها مراسلة مكتب الأمن الوطني للسؤال عن المعتقلين، والانتظار لأشهر طويلة قبل أن يأتي الرد بعدم وجود معلومات عن الاسم المطلوب أو أنه غير مذكور في سجلات أجهزة المخابرات، مما يعني أنه قد صُفِّي، وهي الطريقة التي عرف بها أبو زيد نفسه خبر استشهاد أخويه السجينين. لكنه لم يدفع شيئاً، على الأقل، فيما كانت «تسعيرة» الحصول على معلومة عن معتقل هي مليون ونصف مليون ليرة سورية. ومن المعروف أنها من أرخص الأرقام في «السوق». إذ إن المبالغ التي يتقاضاها ضباط وعناصر الأمن أعلى بكثير، مما دفعهم إلى إهمال طلبات استعلام الوزارة في أغلب الأحيان، ما دام علي حيدر سيقدّمها بهذا السعر المنافس عن طريق مرافقه، المساعد أول المفرز من الحرس الجمهوري، بهاء هليّل.

يتذكر أبو زيد هليّل الذي زجّه في فرع فلسطين الشهير، لمدة شهرين، بتقرير كيدي. فيما يذكر آخرون اسم متزعم الميليشيا المحلية السابق عهد، شقيق الوزير، بوصفه أحد «مفاتيحه»، وشخصاً يرمزون له بالأحرف الأولى (ق، أ)، كان يشغل وظيفة أمين سر الوزير، واتخذ من أحد الفنادق الشهيرة بدمشق مقراً للقاء ذوي المفقودين، واعداً إياهم بمعرفة مصير أقربائهم وإخلاء سبيل المعتقلين منهم بحكم علاقاته.

لم تنحرف الوزارة عن الوظيفة التي أرادها النظام، سواء في الحكومات الثلاث التي شاركت فيها أو بعد تحويلها إلى «هيئة» عام 2018. وهي مجرد الوجود، والقيام بمبادرات مهرجانية متقطعة وفارغة، ولقاء أجهزة الإعلام. حتى في هذه الأخيرة يقول أبو زيد إن حيدر كان يقرأ في الصحف الرسمية تصريحات منسوبة إليه، ويراها لأول مرة!

إذ لا توافقات في دولة الأسد، ولا سياسة، ولا حلول وسطاً. «المصالحة» الوحيدة المتاحة هي الاستسلام المسمّى «تسوية الوضع» أمنياً، والانتقال بين ضفتي القتال إلى الفرقة الرابعة أو سواها من قوات النظام المقاتلة، وإثبات الولاء، المشكوك فيه على الدوام، بتقدم الصفوف، والعودة إلى البلدة في تابوت في غالب الأحيان. أما من لم يكن هذا مصيره فتكفلت به الاعتقالات (كما يجري في الغوطة) أو الاغتيالات (كما يجري في درعا). وأخيراً تحريض بعض «الأهالي» على رفع دعاوى شخصية في حق المقاتل السابق يتهمونه فيها بالتسبب في مقتل أحد أقاربهم من جنود النظام في هذه المعركة أو تلك، مما شارك فيه عندما كان في فصيله. تحت زعم أن السلطة تملك العفو عن الحق العام ولكنها لا تستطيع الضغط على أولياء الحقوق الفردية!

وإذا كان ناشطو الثورة قد استعادوا مراراً قصيدة أمل دنقل المؤثرة «لا تصالح»، وكانت لذلك نتائج معنوية مفيدة لهم وقتها؛ فإنه من الجدير أن نتذكر أن أحداً لم يعرض عليهم أي مصالحة جدية أصلاً!!!!