لا بد لسقوطنا أن يكون مدوياً

2020.02.03 | 23:12 دمشق

nzwh_adlb_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام وخلال فعالية بسيطة جمعتنا مع منظمات إنسانية عاملة في الشمال السوري بعد نجاح حملة تبرعات مخصصة لضحايا حرب التهجير، شكر مسؤول إحدى هذه المنظمات جهود المتبرعين والداعمين وعلق على هذا النجاح وقال: "إننا استخدمنا أموال المتبرعين في إخلاء أهلنا من مدن المعرة وسراقب وجبل الزاوية.... وأمنا لهم سبل الخروج الآمنة إلى أقصى الشمال والغرب إلى أماكن أكثر أمنا ومخيمات أقمناها...".

قد تكون هذه الجملة واحدة من أقسى الجمل التي سمعت خلال السنوات الأخيرة من عمر ثورة هؤلاء الذين يقتلعون اليوم من بيوتاتهم، نحن كنا ندعم بخجل صمودهم، ندعم نضالهم، ندعمهم ليبقوا ويستمروا ولم أتخيل يوما أننا سندعم اقتلاعهم من أرضهم، وترحيلهم عن ديارهم ليسكنوا خياما نائية.. إنها عين المأساة.

في الشمال البائس الذي حولته روسيا وإيران وقوات الأسد إلى محرقة مستمرة ترى طوابير البشر محشورة في السيارات والعربات وعلى الدروب خارجين من أرضهم هربا من موت يلاحقهم فارين دون وجهة، إلى مجهول يقيهم وفلذات أكبادهم ولو مؤقتا "على الأقل" موتا مجانيا توزعه المقاتلات الحربية، أرتالهم تمضي وكأنها لا تُرى لا يراها أحد لا الضامن ولا الساكت ولا القاتل، أرتال طويلة ممتدة من لحم ودم وقهر وأمنيات، سحقت يومياتهم البسيطة حرب التهجير الكبرى التي تشنها عليهم كل القوى الكبرى، بعض يشنها بالقنابل والآخر بالسكوت، ضاقت بهم الأرض وما تبقى من الشمال آمنا  لم يعد فيه المزيد، فلا بيوت ولا خيام يأوي الناس إليها، ولا مساعدات ولا من هم يساعدون... تخبرني عائلتي التي تسكن ريف إدلب الغربي أنه حتى ديال الشجر (أطراف الأشجار) سكنته العائلات الفارة.

الآن نراهم على الطرقات يمضون تاركين الديار حاملين مفتاح البيت وزاد الرحلة وصبرا جميلا ولا ترى في عيونهم إلا اليأس

إذن نحن أمام كارثة نزوح ومآسٍ إنسانية، هذا التوصيف ليس دقيقا بل نحن أمام هزائم أخلاقية بالجملة وفشل سياسي وتكتيكي وخذلان جم، وتعامٍ عن حقائق مفادها أن سلسلة صفقات عقدت ومررت بين القوى الفاعلة في سوريا الخارجية والداخلية أدت إلى هذا المآل وهؤلاء جميعا اليوم يدفعون أثماناً لخيارات ليست خياراتهم، هم اختاروا الثورة على نظام الأسد وشبابهم اختاروا مقارعته بندية في ميادين القتال عندما فرض عليهم حرب إبادة، وهم رفضوا الاحتلالات الإيرانية والروسية وقاموها بلحمهم الحي وهم رفضوا كل مشاريع التأطير مع القوى الداخلية التي لا تناسب ثورتهم (هيئة تحرير الشام وغيرها) وقاوموها علنا دون أن يحسبوا عقباها، والآن نراهم على الطرقات يمضون تاركين الديار حاملين مفتاح البيت وزاد الرحلة وصبرا جميلا ولا ترى في عيونهم إلا اليأس، حتى أملهم تركوه خلفهم. وصل الحال بأن أخذ بعضم شواهد قبور أبنائه لم يتركها للغزاة ولم يستطع أحد أن يقنعه بأن عودته قريبة.

ولكن كيف حصل كل هذا، فلم يعد للسقوط معنى عظيم كما كان ولم يعد للدفاع عن مكتسبات أولئك المستباحين واجب بعد أن دفعوا كل شيء في سبيل خلاصهم وحريتهم، ليروا مدنهم تسقط تباعا ويصبح سؤالهم ما هو التالي ويصبح شغلنا الشاغل كيف نخلصهم من ديارهم ونبعدهم عنها إلى أي خيمة لأن الغزاة اقتربوا.. بينما ما كانوا ليتحركوا لو أن الجبهات اشتعلت دفاعا عنهم بل كانوا دفعوا رجالهم إليها، فمعارك السقوط هي معارك الرجال وليست معارك الطيران الحربي فقط، وهذه الدروس ليست نتاج خبرات شخصية بل هي دروس استفدناها من صمود وغيرة نفس الناس الذين يُبعدون اليوم، هم من علمنا معنى التحرير والصمود، لكن من ذا الذي يفتح جبهات ويقفلها هل تغير عن ذي قبل؟ نعم تغيّر وأصبح له حساباته الخاصة وخرائطه الخاصة التي غيبت عن الجميع وكانت لتطبق دون عظيم الأثر لولا خلافات النفوذ وعقلية الغازي وتحول الملفات وثقلها، وكأننا لم نعرف بعد ماذا يعني دخول جنود الأسد والمليشيات الطائفية والقوات الروسية إلى مدننا بل نعرف جيدا ولسنا بسذاجة من وقعَ عريضة الاستسلام بدلا عنا، وخير دليل على ذلك أن الناس تركت كل شيء ومضت إلى اللاشيء رافضين الحياة في ظل هذه القوات وهذا استمرار لنهج الرفض الطويل لحكم الأسد فما بال الموقّع لم يتعلم الدرس بعد! ولم يتعلم أن جرحنا عظيم وممتد من إدلب إلى الأبد وأن ضجيجنا واعتراضنا سيكون عاليا لأن سقوطنا لا بد أن يكون مدويا وإن لم يكن للبعض مشرفا.