لا أستطيع التنفس

2020.06.06 | 00:00 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لا أستطيع التنفس" هذه هي الكلمات الأخيرة لجورج فلويد، الرجل البالغ من العمر ٤٦ عاماً والذي مات أثناء عملية اعتقاله، بعدما ركع فوقه أحد عناصر الشرطة واضعاً رجله فوق عنق فلويد لمدة قاربت تسع دقائق، ثم أغلق جورج فلويد عينيه وتوقف عن التوسل، لتعلن وفاته بعد ذلك بوقت قصير.

لم تمر هذه الحادثة مثل سابقاتها من حوادث الموت التراجيدي على أيدي عناصر الشرطة في أنحاء العالم، لكنها تحولت إلى شرارة تعلن بدء المسير نحو التغيير.

وكأن حادثة البوعزيزي وحمزة الخطيب تتكرر، وكأننا ننفخ في قرب مقطوعة فلا ينتبه أحد إلى ما نقول.

أجرى عامر الدبك حواراً معي نشر في مجلة الهدف عام 1992 م تحت عنوان "المثقِّف والإبداع ومستقبل الجيل في ظل النظام العالمي الجديد" قلت فيه:

لم تتصلب ذاكرة المثقف يوماً، ولم يكن بحاجة إلى مآسٍ جديدة توقظ ذاكرته، لأنه لم يتوان عن مساءلة الذات، ومراجعتها، قبل إدانة الآخرين، لا في الماضي ولا الآن.

ولكن الذي يحدث أن السلطات التي كانت تهمّشه هي التي تراجع نفسها، بخجل، تحت وطأة المستجدّات العالمية، التي تبشر بسقوط الدكتاتوريات ذات القائد الواحد والحزب الواحد، والرؤية الواحدة، وهذا يجعلها تفتح أمامه كوّة صغيرة حذرة ليتنفس من خلالها المواطن الذي أرهقه القمع المتواصل في مستنقع لا قرار له.

إن المثقِّف (بكسر القاف وتشديدها) يمتلك رؤى استشرافية واضحة من خلال ثوابته الثقافية التي ترى أن الحضارة، أينما كانت، وأياً كان مصدرها، هي حضارة إنسانية، وبالتالي فإن مواقفه ضد كل ما هو آسن، مواقف ثابتة، مهما تغيرت الظروف والأشكال، ولكن الإقصاء الذي مارسته، وتمارسه سلطات (داخلية وخارجية) تستفيد من تجهيل المواطن العربي، هي التي تضغط على المثقفين وتسعى إلى تفرقهم شيعاً وأحزاباً، وتمنع وصول أصواتهم إلى الجماهير، وهذا يعني أن ما نعانيه ليس هو أزمة ثقافة بل أزمة مثقفين، بمعنى أن المثقف العربي اليوم انحاز من ممارسة الثقافة إلى تابعية السياسة، فغدا يتخبط في الطارئ، في حين أن مهمته الأساسية هي أن يبحث في آلام الأمة وآمالها بعيداً عن التكتيكي والمرحلي والمؤقت.

إن صراع المثقِّف (بكسر القاف وتشديدها) العربي لا يبدأ، ولا ينتهي عند حدود امبراطورية السادة – الأسياد الجدد، وإنما هو في معركة تحدّي مع الاستلاب، والاستغلال، والاستبداد. وأيضاً، إنه ضد كل ما، وكل من يعمل على قهره وإذلاله ليجعله يتقبّل الغزو الثقافي الاستهلاكي مرغماً. فهل نبّهنا الواقع الجديد لهذا التحدّي؟

لا أظن ذلك.

إن العملية بدأت قبل ذلك بكثير، ولكنّ السلطات الآن تسمح بفسحة صغيرة للتعبير عن ذلك، وربما لأنها بدأت تعي أهمية دور المثقف في بلورة البناء والاستقلال. أما العالم اليوم فهو ليس في نظام جديد، وإنما هو في مخاض نظم جديدة قد تصبح أوروبا فيها في مقدمة القوى العالمية المهيمنة، فضلاً عن تصاعد دور اليابان الملحوظ، ناهيك عن الغليانات الجامحة التي تحدث في أفريقيا وفي دول الجنوب.

إن استقرار موازين القوى العالمية لا يمكن أن يتحدد مرحلياً بهذه السرعة، وربما يحدث ذلك في مطلع القرن القادم.

فهل نحن حقاً أمام خيار وحيد يدعو إلى تبنّي قيم أميركا التي تريد أن تصوّر نفسها بأنها القوة الوحيدة على الأرض؟

وهل نتبع دولة لا تاريخ لها، ولا نرى فيها ما يُتّبع؟

أين هو النظام العالمي الجديد؟

إنني لا أراه، فكل ما هنالك أن الثعبان يغيّر جلده، وينتقي ربطة عنق تناسب (موضة) العصر. وفيما عدا ذلك فهو لم يتحوّل عن المحافظة على القوة التي تدعم كل ما يبقي دول العالم الثالث في حالة تخلّف وفساد.

ما المتغيرات الطارئة؟

إنها لا تعدو أن تكون شكلاً جديداً من أشكال هيمنة الدول القويّة عسكرياً.

إنّ النظام العالمي القديم أو الجديد، هو نظام سياسي، لا نظام حضاري، ونحن نبحث في الثقافة، ولا ينبغي أن تؤثر فينا هذه التحوّلات السطحية بأكثر مما تستحق.

إنّ المثقف العربي – عموماً وإجمالاً – هو في صراع مع سلطات داخلية تعزّز التجزئة والتخلّف، ولهذا فإنّ النظم العالمية المتغيرة، لا تمسّه بشيء جديد مادامت مستمرة في أداء دورها السابق من حيث محاولتها القضاء على العروبة والإسلام.

ولا يستطيع المثقّف العربي الوقوف في وجه تلك المدنيّة المدمّرة إلا إذا استطاع أن يحلّ مشكلاته الداخلية أوّلاً، وذلك بتشكيل جبهة متضامنة تسمح له فيها السلطات – راضية أو راضخة – بممارسة دوره الفعال، من خلال ما تمتلكه من وسائل إعلامية، واقتصادية، وعسكرية، لإيقاف اقتتال الأشقّاء، وبناء دولة عربية موحدة قادرة على إيقاف نزيف الأدمغة والدماء والثروات، واعية لدروس الديمقراطية الحقيقية، لينطلق بعد ذلك لمواجهة الغزو الثقافي، العسكري الاقتصادي، بثقة وجدارة.

أما جيلنا فلا مستقبل له إذا بقيت الأوضاع على ماهي عليه، إلاّ بعد أن تُروى شجرة القرن القادم بأنهار من الدم دفاعاً عن حرية المعذّبين في الأرض وعن حقوقهم في العيش بمستوى يليق بالبشر.

إنّ الجيل محاصر بالقمع وبالبطالة وبالتدجين. وهو يلاحظ التفاوت الهائل في الدخول بحيث يتعزز انقسام المجتمع إلى فئتين: الأغنياء المتخمون والفقراء الجائعون.

أما طريق الاستقرار العاطفي والنفسي فهو مسدود أمامه لأن الزواج أصبح مرهوناً بالقدرة الشرائية.

والشاب لا يرى سوى تفشّي الفساد واستمرار التخلف والجهل والأمية واتساع الهوّة بين المقولات النظرية والتطبيقات العملية.

وتحيط به المحرّمات من كل جانب، لا تفعل.. لا تسمع.. لا تتكلم.. لا ترَ. توجّهه الأسرة نحو الخلاص الفردي بشتى الوسائل، ويرى الأحزاب لا تعمل على خير الوطن، بل هي تكافح لتحتل مكاناً لها في السلطة.

إن لدى الشباب طاقة هائلة وطموحات كبيرة، ولكنه حين يُمنع من التحرك المشروع، يخيب أمله بالمجتمع وبالحكومات وبالديمقراطية..

وفي حين تقول له الوسائل الإعلامية، إنّه بخير، لا يرى سوى النكبات والنكسات والهزائم على الصعيدين: العام والخاص. فيحاول أن يقاوم التدجين، ولا يرى أمامه سوى مؤسسات القيم الغربية (تلفاز.. إذاعة.. صحف.. كتب) التي توحي إليه بأنها ملاذه الأخير. ويرى نفسه أمام خيار صعب بين أن يتغرّب أو أن ينكفئ نحو خلاص ديني متطرّف.

وفي الأحوال كلّها يحاول أن لا يصغي لمن يحاول أن يؤقلمه ويخبره أن العالم بخير مع أنه يرى العكس.

وهنا ينقسم الجيل إلى قسمين: قسم سيتّجه نحو قيم الوجودية بمفهومها الخاطئ فيضيع في المخدرات والعنف العشوائي والعبثية، حيث يتحول مطلب الديمقراطية والحرية الفردية إلى فوضى في ظل ازدياد الطلب على الاستهلاك، الذي تفتح دول العالم الثالث طريقه أمام تصنيع الغرب. ويصبّ هذا القسم من الشباب في خانة اللاانتماء.. بعد أن يلاحظ فشل الاتجاهات الماركسية والقومية والإسلامية والليبرالية.. في تحقيق طموحاته.

أما القسم الثاني فإنّه سيتّجه إلى التزمّت الديني، وسيحاول، من خلال تمسّكه بالتطرف، أن يعبّر عن رفضه لواقع سيّء حيث فشلت النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في القيام بأدوارها، ولم تسمح له بالمشاركة في صنع الحاضر وفي التخطيط للمستقبل المنشود. وهذا يدفعه إلى ممارسة العنف بحثاً عن الإمبراطورية الإسلامية المفقودة التي تميّزت بها الخلافة الراشدية، وسيندفع بكل قواه، خاصة وأنّ رموز التطرّف يبشّرون من يضحّي بنفسه بالجنة في الآخرة، إذا لم يستطع تحقيق ما يريده في الدنيا.

فإمّا أن يمتلك الشباب جزءاً من ثروات بلاده، ويشارك في مستقبلها، ويشعر بالمساواة وبتكافؤ الفرص فيها، أو أنه سيبحث عن صدى أعماله في الآخرة.

هذه هي صورة الجيل المرتقبة، فهل هي صورة قاتمة؟

لست أدري، ولكنّها – في ظنّي – سترتسم على النحو المشار إليه آنفاً، إن بقيت الأمور على ماهي عليه.

وكأنني قد أجبت أيضاً عن تساؤل الانفجار الذي سيقود إليه الواقع المنظور.

إن الانفجار لابد منه إن لم نتحرّك لتلافيه إيجابيّاً. وهو انفجار سيؤذي الجميع، ولكنّه  –مع الأسف – لن يزيل التعرّجات عن الطريق، بل سيوقعنا في حفر أكثر مأساوية وخطورة مما نحن فيه، إن لم نضع البدائل قبل نسف جدار الرعب. والفرق شاسع بين النار التي تحرق، والنار التي تدفئ وتضيء.

أما التغيير الذي يبشّر بنتائج طيّبة فلا بد من طبخه على نار هادئة.

ولا يمكن أن نتجنّب انقسام الشباب إلى النقيضين المفجعَين، ولا يمكن أن نتجنب النار التي قد تحرق الأخضر واليابس، ولا يمكن أن نتجنب حرباً أهلية تلوح في الأفق، إلاّ إذا تكاتف المثقّفون والتحموا بالجماهير، واتجهت السلطات نحو الممارسة الديمقراطية للسلطة، واعتمدت على آراء المثقفين في عملها وفي مواقفها تجاه العالم، معترفة للثقافة باستقلالها وسيادتها ودورها الفعّال في تقدّم الأمة، والتفتت إلى تطوير برامج التعليم من التعليب إلى التعليم الديمقراطي الذي يعتمد على الحوار والإقناع، وبدأت – بشكل حاسم – بوضع الرجل المختص في مكانه المناسب بعيداً عن أهل الثقة الأميين، وبالاعتماد على ذوي الاختصاص الذين يهتدون ببوصلة تتكون من طليعة مخلصة للثقافة، ومخلصة للأمة، ومخلصة لذاتها. فهل يمكننا أن نتعلّم الدروس من التاريخ حتى لا يعيد نفسه مرتين؟.

لم تأبه السلطة بما كنا نقول، ولم يقرأ الجيل ما دعوناهم إليه، تماماً كما لا يصل صوتنا الذي نحذر فيه الشعوب من أخطار قادمة، ففي حوار مع تلفزيون السويد عام 2015م  قلت لهم: إن شعوب أمريكا وأوروبا إن لم تردع حكوماتها عن دعم الطغاة في العالم العربي فإنها ستعاني من استبداد قادم سيعيدها إلى سيرة الحروب الأهلية والطائفية، فالسلطة التي تأمن المحاسبة ستطلق العنان للشرطة كي تقمع الحريات، وستحوّل الجيش من مهمة الدفاع عن الحدود إلى الدفاع عن الحكومات؛ فالشرطة والجيش في العالم يتسمون بصفات مشتركة عنوانها القوة، والقوة غاشمة مالم يحدّها القانون.

"لا أستطيع التنفس" عبارة ستردد صداها عبر التاريخ إلى أن تعي الشعوب حاجتها إلى مناصرة سواها كي لا يأتي عليها الدور في كتم الأنفاس بعد أن يسبق السيف العذل.