لأول مرة في تاريخها.. أميركا تحت سلطة القضاء الجنائي الدولي

2020.04.03 | 00:10 دمشق

thumbs_b_c_8fa9b3c2f834d4b7be919d5a773b87a8.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل حان الوقت لإنصاف مئات الآلاف من ضحايا الحرب في أفغانستان، وإحقاق العدالة ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في هذا البلد على مدار سبعة عشر عاماً؟ ربما لا يزال مبكراً الحكم على هذا التساؤل، لكن ما يمكننا قوله إن عجلة العدالة في أفغانستان قد بدأت رغم الصعوبات الكثيرة التي ستقف أمامها.

قبل أكثر من عشرين عاماً عارضت الولايات المتحدة الأميركية جميع الجهود الدولية لإنشاء محكمة جنائية دولية تكون لها الولاية لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي وتضع حداً للثقافة سيئة الصيت المتمثلة بإفلات المتهمين بارتكاب مثل هذه الجرائم من العقاب، ورغم تصميم الدول الأطراف في ميثاق روما الأساسي لعام 1998 على إنشاء هذه المحكمة، ظلت الولايات المتحدة تعارضها في مختلف الميادين الدولية وترفض الانضمام إليها، ومارست ضغوطا كبيرة على الدول الأطراف لمنع محاكمة مواطنيها الذين يثبت تورطهم في ارتكاب مثل هذه الجرائم أو إحالتهم إلى هذه المحكمة، الأمر الذي تسبب في تآكل صدقيَّة الولايات المتحدة بشأن العدالة الدولية.

يدرك المراقب لعمل المحكمة الجنائية الدولية خلال السنوات الأخيرة خاصة في عهد المدَّعية العامة "فاتو بنسودة" أن المحكمة تسعى لإثبات أنه لا يوجد أحد فوق القانون، وأن عدم انضمام بعض الدول القوية لميثاقها لن يثنيها عن الوصول إلى مسؤوليها ومحاكمتهم وأنها لن تنصاع للتهديدات التي تتعرض لها من قبل هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل بفرض عقوبات دولية على قضاتها وموظفيها.

في الخامس من آذار 2020 قررت غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بالإجماع السماح للمدعي العام بالبدء بالتحقيق في الجرائم المزعومة الخاضعة لولاية المحكمة التي ارتكبت على أراضي جمهورية أفغانستان منذ الأول من أيار 2003 (تاريخ نفاذ ميثاق روما الأساسي تجاه أفغانستان)، وسيطول التحقيق الذي سيتم استئنافه قريباً جرائمَ الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات الأفغانية وقوات طالبان والقوات الأميركية، والجرائم المزعومة التي ارتكبتها وكالة المخابرات المركزية (CİA) في مراكز الاحتجاز السرية التي كانت تشرف عليها سواء في أفغانستان أو في بولندا أو رومانيا وليتوانيا باعتبارها مرتبطة بسياق الصراع الأفغاني.

وصدر القرار المذكور بناء على مذكرة الاستئناف التي قدمتها المدعية العامة لدى المحكمة ضد قرار الدائرة التمهيدية الثانية المؤرخ في 12 نيسان 2019 الذي رفض طلب المدعية العامة منحها الإذن بإجراء التحقيق في الثاني من تشرين الثاني 2017. وأكد قرار الغرفة الاستئنافية أن هناك أساساً مقبولاً للنظر في ارتكاب جرائم تدخل ضمن الولاية القضائية للمحكمة في أفغانستان وذلك بما يتوافق مع المادتين 15 و53 من ميثاق روما الأساسي.

وكانت الولايات المتحدة قد هددت المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها وجميع العاملين فيها بفرض عقوبات عليهم في حال قرروا بدء التحقيق مع مواطنين أميركيين، في حين اعتبرت منظمات حقوقية دولية تهديدات إدارة ترامب محاولة شائنة لترهيب المحكمة وردع التحقيق في سلوك الولايات المتحدة ودعت الدول الأطراف في ميثاق روما إلى التوضيح علناً بأنها ستبقى داعمة للمحكمة بالكامل ولن تتسامح مع العرقلة الأميركية للعدالة الدولية. كما سبق أن احتجت الولايات المتحدة بشدة على قبول فلسطين لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وحاولت منع عضوية فلسطين وهددت بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية إذا لم تتخلَّ عن جهودها للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، حجة الولايات المتحدة هي أن تحقيق المحكمة من شأنه أن يزيد من تعقيد الصراع المتوتر بالفعل من خلال منع حدوث مفاوضات السلام أو عرقلتها، وأن فوائد السلام تفوق قيمة المساءلة الفردية عن الجرائم الدولية.

وتأتي أهمية هذا القرار بأنه يعزز من استقلالية المحكمة الجنائية الدولية ويثبت سيادة القانون الدولي ويعطي الأمل لآلاف الضحايا الذين يسعون للمساءلة في ظل إخفاق السلطات المحلية في إنصافهم، ويرسل إشارة واضحة إلى جميع الدول والأنظمة الاستبدادية بأنه لا أحد فوق القانون، وسيشكل ثالث تحقيق تجريه المحكمة خارج القارة الأفريقية، وبالتالي يبعدها عن الانتقادات التي وجهت لها بشكل لاذع منذ عام 2009 بأنها تستهدف دول أفريقيا بشكل غير عادل، كما يتضمن رسالة واضحة لأولئك الذين ارتكبوا جرائم فظيعة في أفغانستان على مدى عقود دون أن تطولَهم يدُ العدالة بأنهم أصبحوا تحت سلطة القضاء الجنائي الدولي، علاوة على ذلك، فإن فتح التحقيق سيعني أنه أصبح لدى ضحايا الجرائم التي ارتكبت في أفغانستان منذ عام 2003 فرصة وإمكانية للانتصاف والوصول إلى العدالة التي طال انتظارها، ويمنح الأمل لشعوب أخرى - مثل الشعب السوري- بأن العدالة في طريقها إليهم.

وتأتي أهمية القرار أيضاً في أنه يمس ولأول مرة مواطنين وموظفين أميركيين وغربيين طالما كانوا يشعرون بأنهم خارج قبضة العدالة الدولية بسبب الحصانة التي تحاول الولايات المتحدة أن تضفيها على الجرائم التي ارتكبوها في العراق وأفغانستان وغيرها. كما سيشكل القرار تهديداً قضائياً حقيقياً ضد الجنود والضباط الأميركيين والغربيين الذين عملوا في أفغانستان خلال السنوات السابقة رغم المحاولات الأميريية لإجهاض أي جهود من هذا القبيل.

ومن المتوقع أن يطولَ التحقيق جرائم القتل والتعذيب والمعاملة القاسية والتعرض للكرامة الشخصية والاغتصاب والعنف الجنسي التي ارتكبتها جميع الأطراف بما فيها وكالة المخابرات الأميركية التي اتهمتها منظمات دولية بارتكاب مثل هذه الجرائم في مراكز الاعتقال التي كانت تشرف عليها داخل أفغانستان أو في دول أطراف أخرى مثل إجبار السجناء على التعري والوقوف لساعات طويلة ومنعهم من النوم والضرب المبرح ووضعهم في صناديق صغيرة وتعريضهم لدرجات حرارة متدنية وغيرها من الجرائم.

وربما يتساءل البعض لماذا أصدرت المحكمة قرارها في هذا التوقيت بعد أيام قليلة على توقيع اتفاق السلام بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأميركية في الدوحة في التاسع والعشرين من شباط الماضي؟ وقد يشكك البعض في مدى قدرة المحكمة على التحقيق مع الجنود الأميركيين، وأن القرار سيطول فقط قادةَ حركة طالبان والقوات الحكومية الأفغانية وسيفلت الجنود الأميركيون من المحاسبة باعتبار أن أفغانستان طرفٌ في النظام الأساسي للمحكمة، في حين أن الولايات المتحدة لم تنضم لهذا النظام حتى الآن.

الحقيقة هي أن المدعي العام بدأ منذ عام 2007 بالمعاينة الأولية لما يجري من انتهاكات على الأراضي الأفغانية وبدأ بجمع معلومات تساعده على طلب البدء بالتحقيق، وإثبات عدم قدرة السلطات الوطنية في أفغانستان على بدء المحاكمة والتصدي لمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات. وبعد مرور عشر سنوات اتخذ مكتب المدعي العام قراره النهائي بطلب الإذن بمباشرة التحقيق حيث قدم طلباً إلى الدائرة التمهيدية الثانية في العشرين من تشرين الثاني عام 2017 إلا أن الدائرة المذكورة رفضت منحه الإذن وعللت قرارها بأن التحقيق في ظل هذه الظروف لن يخدم العدالة وأن فرص نجاحه محدودة خاصة وأن الأطراف المعنية لن تتعاون مع المحكمة للوصول إلى الأدلة والمتهمين. هذا الرفض لم يمنع المدعية العامة من استئنافه أمام غرفة الاستئناف التي أصدرت قرارها بفسخ قرار الدائرة التمهيدية والحكم بمنح الإجازة للمدعية العامة لمباشرة التحقيق ضمن المعايير المنصوص عليها في ميثاق روما الأساسي في الخامس من آذار 2020.

أخيراً، لا شك أن المحكمة الجنائية لن تستطيع في ضوء الإمكانيات المتوفرة لديها معالجة جميع الانتهاكات التي ارتكبت في أفغانستان، وربما سيكون لهذا القرار تداعيات خطيرة على الأوضاع في هذا البلد، وقد يذهب البعض إلى اعتباره يقوض اتفاق السلام الذي تم توقيعه مؤخراً ولن يشجع الأطراف الأفغانية على وجه التحديد في السير قدماً لإنهاء الصراع الدامي هناك، خاصة أن أي طرف من الأطراف المتورطة لن يسمح بمحاكمة أو تسليم أفراد محسوبين عليه، أضف إلى ذلك فإن تنفيذ القرار يواجه الكثير من الصعوبات مثل حالة عدم الاستقرار وانتشار العنف في أفغانستان وعدم قدرة قضاة المحكمة على الوصول إلى الضحايا والشهود والمتهمين بارتكاب الجرائم التي تنظر بها، خاصة أن المحكمة تعتمد في جوانب كثيرة من ولايتها، على تعاون الدول الأعضاء فيها، مثل الوصول إلى مواقع الجرائم والشهود، وتنفيذ الاعتقالات، والتحدي الأخير الذي قد يواجه المحكمة في المضي قدماً في التحقيق يأتي من مجلس الأمن الدولي الذي يحق له وفقاً للمادة (16) من النظام الأساسي للمحكمة طلب إيقاف أو إرجاء التحقيق لمدة 12 شهراً قابلة للتجديد بناء على قرار يتخذه المجلس تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية فتحت منذ بدء عملها في 2003، تحقيقات في إحدى عشرة دولة، بما في ذلك دارفور في السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي وجورجيا بالإضافة إلى فلسطين. وفي عام 2018 اتخذت المحكمة قراراً جريئاً بالتحقيق في الانتهاكات التي تعرضت لها أقلية الروهينغيا على يد القوات الحكومية في ميانمار رغم أن الأخيرة ليست طرفاً في ميثاق روما الأساسي، في حين تدرس المدعية العامة ما إذا كانت التحقيقات مبررة في حالات أخرى، منها الفلبين وأوكرانيا وربما سوريا في المستقبل القريب انطلاقاً من بوابة الأردن باعتبارها طرفاً في ميثاق روما الأساسي وتحتضن أكثر من مليون لاجئ سوري على أراضيها.