كيف وصف شاعر أمريكي حياة اللجوء؟

2020.02.06 | 23:01 دمشق

222.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحكي تشارلز سيميك سيرته في كتاب بعنوان "ذبابة في الحساء" بترجمة جميلة من إيمان مرسال ومن إصدار الكتب خان، في الفصول الأولى يحكي تشارلز عن المنفى، وهو يشعر أن قصته ليست مميزة فاللجوء بسبب الحروب أصبح شائعاً في عصرنا. وعندما كان يترجم قصائد من سراييفو لمجموعة شعرية واجه محرّروها صعوبات كبيرة في العثور على الشاعرة التي كتبتها. لقد اختفت. هي لم تكن مغمورة، كان لديها الكثير من الأصدقاء، لكن يبدو أن لا أحد يعرف ما حدث لها في فوضى الحرب.

في عام 1945 انتهت الحرب العالمية الثانية، وتوقفت الصراعات بين الدول الكبرى ونتج عنها هؤلاء المشردون كما أطلقوا عليهم في تلك الفترة، وبفعل معاهدة يالطا والاتفاقات بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي دفعت الأسر البريئة ثمناً باهظاً لمجرد وجودها في أماكن الحرب. لقد جاء هؤلاء اللاجئون إلى أوربا بخِرقهم البالية ومناظرهم التعسة ويأسهم، جاؤوا زرافات ووحداناً من الشرق، هاربين من الشر بدون أية فكرة عمّا ينتظرهم، ولم يكن لدى أحد في أوربا ما يكفيه ليأكل. ويخبرنا تشارلز أن أسرته مثل أسر أخرى عديدة قد تمكنت من رؤية العالم مجاناً والفضل يعود لحروب هتلر وسيطرة ستالين على أوربا الشرقية. شعر تشارلز بأنهم كانوا عديمي الأهمية وأنهم لم يقرروا شيئاً لأنفسهم، كل شيء رتّبه قادة العالم وقتها وعقدت اتفاقيات حول مجالات النفوذ.

لم تتعرض أسرة تشارلز لمعاناة مريعة كآلاخرين، مثل تلك التي عاشتها الأسر التي أعادتها الحلفاء إلى ستالين. مئات الآلاف من الروس الهاربين ضد إرادتهم، كان الألمان قد جلبوهم قبل ذلك للعمل في المصانع والمزارع، قتل الروس البعض والبقية تم شحنها إلى معسكرات السخرة حتى لا تنتشر تلك الأفكار الرأسمالية المنحطة التي اكتسبوها من الحياة في الغرب. كانت أسرة تشارلز تأمل أن تحصل على فرصة في الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا، لكن ذلك لم يكن مضموناً، لقد كانت أسهم دول أوروبا الشرقية منخفضة في فرص قبول الهجرة، هؤلاء السلاف الجنوبيون كانوا من الأعراق غير المرغوب فيها في أعين خبراء الجينات الأمريكيين وواضعي قانون الهجرة.

يخبرنا تشارلز أنه لم تكن لديهم الوثائق اللازمة، وهذه التجربة لم يفهمها إلا من عاشها، ويخبرنا عن السعادة التي يشعر بها ضباط الهجرة عندما يسيئون استخدام سلطاتهم على الأجانب، تلك السعادة في إذلال العاجزين لم تكن بسيطة، وهو يتذكر هذه المواقف رغم أنه كان طفلاً، فحينما يوجد بيروقراطيون تكون الدولة البوليسية هي المثال الأعلى.

يتذكر تشارلز سيميك وقوفه في طوابير لا نهاية لها أمام مقر البوليس في باريس من أجل تسلُّمِ أو تجديد تصريح الإقامة، ينتظرون نهاراً كاملاً ليكتشفوا أن القوانين تغيرت منذ الزيارة الماضية، ويطلب الموظفون الساديون شيئاً على قدر من العبث مثل وثيقة زواج جده أو شهادة تخرج أمه من المدرسة، يقفون وهم يشعرون باستحالة الحصول على تلك الأوراق، يقفون في الطوابير ويستمعون إلى قصة شخص احترق بيته وكيف غادر بيته بسرعة دون أن يتمكن من جمع الأوراق الثبوتية المهمة، هل سمعتم بهذه القصة من قبل؟ نعم يبدو أن تاريخ اللجوء واحد سواء لمواطن من شرق أوربا في باريس في منتصف القرن الماضي أو لمواطن سوري في أي من دول الشتات.

يهز ضابط الهجرة كتفيه ويشرع في إعلام هؤلاء اللاجئين، أنه إذا لم تقدم الوثائق فسيتم إلغاء تصريح الإقامة، وبأعجوبة يتواصلون مع أحدهم للحصول على تلك الأوراق، تصل الأوراق بفضل قريب ما من بعيد، ثم تترجم على يد مترجم معتمد، ثم يعودون إلى الطابور الطويل ليكتشفوا أن هذه الوثيقة لم تعد مهمة، وأن شيئاً آخر أصبح مطلوباً، وهكذا تقف عائلة تشارلز سيميك وغيرها من اللاجئين من غرب أوربا، في كل مكتب لجوازات السفر أو أي قسم بوليس أو قنصلية، حيث يوجد موظف سيئ المزاج أتى من الجحيم ويشتبه في أن هؤلاء المشردين كاذبون، وهكذا يعلن كاتبنا أن لا أحد يحب اللاجئين، إذا كنت غادرت بلدك بسبب النازية فقد تحصل على بعض التعاطف لكن أن تغادر بلدك بسبب روسيا الشيوعية فهذا ما يصعب قبوله ولا يجعل أحدا يتعاطف معك، وأحياناً إذا كان المسؤولون يساريين يعاتبونهم لأنهم تركوا المجتمعات الاشتراكية التقدمية.

"حتى الدُمى المبتسمة خلف فتارين المحالّ في شارع فيكتور هيجو الأنيق عاملتنا وكأننا هناك لنسرق شيئاً"

يصف الشاعر تشارلز سيميك بكل دقة شعور اللجوء وهو يقول "حتى الدُمى المبتسمة خلف فتارين المحالّ في شارع فيكتور هيجو الأنيق عاملتنا وكأننا هناك لنسرق شيئاً"، وهكذا لن يحتاج هؤلاء الأفراد إلى طبيب نفسي طالما أن كل من يقابلهم يسألهم "من أنتم" بمجرد أن يفتحوا أفواههم ويسمع لكنتهم. كانت إجابات اللاجئين غير واضحة، بعد تجارب الرجرجة في القطارات المخيفة والسفر فوق الشاحنات والسفن التجارية المهلهلة، أصبحوا لغزاً حتى لأنفسهم، في البداية شعروا بالصعوبة لكن مع الوقت تعودوا، وكانت شوارع باريس ممتلئة بهؤلاء الواثقين من أنفسهم الذين لم يجربوا النبذ أو العيش في المنفى، وبرغم أن تشارلز شعر أحياناً بالحسد من هؤلاء لكنه أيضاً شعر بالشفقة عليهم: لقد جرَّب شيئاً لم يعرفوه، شيئاً يصفه بأنه من الصعب التعبير عنه إلا إذا ركلك التاريخ بقوة في مؤخرتك وهجَّرك من بلدك التي ولدت فيها. لقد شعر تشارلز اللاجئ كيف يبدو الأفراد غير ضروريين وعديمي الأهمية في لعبة التاريخ، وهؤلاء االباريسيون الواثقون من أنفسهم لا يفهمون احتمال أن يكون ذلك مصيرهم في يوم من الأيام، عندما يصف تشارلز نفسية اللجوء نتذكر ذلك النص الذي كتبته حنا أرندت عن حياة اللاجئ السابقة.

في الكتاب وصف لشعوره وهو طفل في بلجراد تحت القصف، كيف كانوا يذهبون إلى الأقبية للاختفاء، وكيف اعتقل الجستابو أباه ثم أفرج عنه، في النهار يلعب كطفل مع أصدقائه على أنقاض البيوت المهدمة، وفي أحد الفترات قام الأمريكان الحلفاء بقصف بلجراد بطريقة عنيفة في يوم أحد الفصح، 16 أبريل 1944، وفي اليوم التالي للغارة الأولى في 1944، جاءت الطائرات مرة أخرى، وبنفس الطريقة ألقت 373 طناً من القنابل على بلجراد، قال الأمريكان إنه لا يُوجد ما يشير إلى حدوث تفجيرات خارج الأهداف العسكرية خلال هذه العملية، لكن تشارلز يحكي عن سقوط قنبلة على الممشى أمام منزلهم لكنها لم تنفجر.

في 1972 قابل تشارلز أحد الرجال الأمريكان الذين شاركوا في قصف بلجراد عام 1944، كان تشارلز قد عاد لبلجراد بعد عشرين عاماً تقريباً من مغادرته، وعندما عاد إلى الولايات المتحدة ذهب إلى تجمع أدبي في سان فرانسيسكو حيث قابل مصادفةً الشاعرَ ريتشارد هيوجو في مطعم. توجه ريتشارد بالسؤال إلى تشارلز كيف قضيت الصيف، وكانت الإجابة في بلجراد.

تحمّس ريتشارد هيوجو وقال إنني أعرف هذه المدينة جيداً، ودون أن يعرف خلفية تشارلز سيميك، قام صديقه برسم معالم بلجراد بقطع الخبز التي على المائدة، افترض تشارلز أن صديقه قد ذهب إلى المدينة سائحاً لذلك يعرف معالمها، لكن الإجابة الصادمة من صديقه: "لم أزرها أبداً، أنا فقط قصفتها عدة مرات في الحرب"، بذهول من المفاجاة، اندفع تشارلز في القول إنه كان طفلاً تحت هذا القصف، خجل صديقه من القصة وانزعج بشدة، حاول تشارلز أن يهدأ قليلاً وأنه لا يحمل أي ضغينة ضده، لكنه سأله ما هو السبب في أنهم لم يقصفوا مقر الجستابو ولا أي مبنى آخر حيث كان يوجد الألمان؟ شرح له هيوجو أن الغارات الجوية كانت تنطلق من إيطاليا، مستهدفة أولاً حقول النفط الرومانية، التي كانت لها أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للنازيين حيث كان يتم الدفاع عنها بضراوة. في كل غارة جويّة كانوا يفقدون طائرة أو اثنتين، ومع ذلك كله، في طريق عودتهم لإيطاليا، كان عليهم أن يتخلصوا من حمولاتهم فوق بلجراد. يطيرون على ارتفاع عالٍ ويلقون ما تبقى من الحمولات بأي طريقة ممكنة، في استباق ليعودوا إلى إيطاليا، حيث يقضون بقية اليوم على الشاطئ مع بعض الفتيات المحليات، هذا جزء من تفاهة الحروب وكيف يتم الاستهانة بدماء الأبرياء وقتلهم بدم بارد..

كلمات مفتاحية