كيف نهرب من ديمقراطية اللا ديمقراطيين، كيف نهرب من الثقافة؟

2021.01.20 | 00:06 دمشق

aoun_1_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

تقارب الثورة السورية على تسجيل عقدها الأول، وتسجيل الهمجية التي واجهتها تحت اسم "مأساة القرن".

مرة أخرى، وفي كل مرة يعود الحديث عن الغاية من الثورة، الانتقال بالمجتمع إلى مستوى أكثر عدالة، أكثر حرية، أكثر مساواة، إلى مجتمع ديمقراطي، على اعتبار أن الديمقراطية كنظام تكفل فرصة تحقيق تلك الأهداف أكثر من أي نظام سياسي آخر معروف حتى الآن على الأقل. لكن هل يمكن أن ينتج عن التفاوض مع نظام مجرم حرب انتقال لمستوى آخر ليس ديمقراطياً حتى، بل أقل عنفاً؟ وعلى فرض أنه تمت - ونتيجة معادلة دولية لا تلوح في الأفق حتى الآن لها أي علامة - إزاحة الأسد ونظام حكمه، فهل يمكن أن تتجه سوريا إلى نظام ديمقراطي؟

هناك في الشارع العلمي العربي إن صح القول تياران واضحان يرى كل منهما أن المشكلة العربية يمكن حلها من زاوية مختلفة، للأسف كلا التيارين، وعلى رغم من ادعاءات الرصانة العلمية والبحثية التي تفوح منها عباراتهم، إلا أنهم لا يلتزمون العلمية والبحث في كثير من النتائج التي يصلون إليها، هم يفكرون، ولعل ذلك سبب تفضيلهم للقب مفكرين، بمعنى أنهم لا يبحثون، وليسوا معنيين كثيراً بالإحصاءات والأرقام والتكرار والانتقال من الفرضية للنظرية أو العكس، هم يقرؤون، يراقبون، يفكرون، يستنتجون، ثم يكتبون.

هذا لا يعني أن كتبهم لا قيمة لها، وأن أفكارهم لا تلامس الصواب في كثير من مضامينها، ولكنها ببساطة تدعي علمية لا يمكن إثباتها. يستحق الربيع العربي الشكر في هذا الحقل لناحية فرضه أبحاثاً أكثر جدية وعلمية، ومن يتابع الحركة البحثية في علم الاجتماع والسياسة والفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية يمكن أن يتابع انتقالا ملحوظا لأبحاث أكثر علمية. نعود للتيارين، التيار الأول هو التيار الثقافوي، والذي يعتقد أن المشكلة الأساسية في العالم العربي هي في الثقافة، في بنية العقل العربي، بمعنى أكثر غربية، في الاستثناء العربي، ويعتقدون أن السياسة (نظام حكم وعلاقات وعقائد) لا يمكن تغييرها بدون أن تتغير ثقافة المجتمع، وأن هذه الأنظمة ليست سوى نتاج لثقافة المجتمع، وعليه فالحل يكمن في العمل على الفرد والمجتمع، وليس على النظام السياسي، كثير من هؤلاء ينتقدون الأنظمة، ولكن بشكل أخف حدة من انتقاد الشعب ذاته، ولهذه المدرسة رواد بأسماء محترمة أمثال جورج طرابيشي وعزيز العظمة وغيرهم، وهذا لا يعني أن الثقافوية اتجاه مقتصر على العلمانيين، بل الإسلاميون أشد ثقافوية ولكن بمفعول عكسي، فالإسلاميون وتحت شعار "الإسلام هو الحل" وبسلاح شرعية الأكثرية يرون أن الثقافة هي المشكلة، الثقافة من ناحية مخالفتها "للفطرة السليمة" والتي تعني بطبيعة الحال اتباع الشريعة، أو بمعنى أكثر عملية "الشريعات" فلكل تيار إسلامي شريعته التي يمكن أن يقصي أو يقتل أعضاء تيار إسلامي آخر بموجبها، هؤلاء كذلك يرون أن الحل بتغيير الثقافة من ناحية العودة، فالعلمانيون يرون أن الحل بتغيير الثقافة بالنظر غرباً في حين يراه الإسلاميون بالنظر خلفاً.

لا يمكن أن تنشر ثقافة ديمقراطية في بلد يسوده نظام غير ديمقراطي، نظام بقدرة عالية قادر على اقتحام كل خاص وخصخصة كل عام،

التيار الآخر هو التيار السياسوي، الذي يرى أن المشكلة في المنطقة العربية، وكذلك الحل هو في السياسة، حيث لا يمكن أن يكون هناك تغيير حقيقي دون تغيير للسياسة، ومن البديهي القول أنه لا يمكن أن تنشر ثقافة ديمقراطية في بلد يسوده نظام غير ديمقراطي، نظام بقدرة عالية قادر على اقتحام كل خاص وخصخصة كل عام، وكيف لـنظام كهذا أن يسمح بنشر ثقافة هي على النقيض منه، كيف لدولة، لأن الدولة في النظام الديكتاتوري العربي هي النظام، أن تضع برامج تشجع على تفكيكها؟ كيف يتاح تغيير الثقافة في نظام يبني سلطته عليها، من رواد السياسوية في العالم العربي برهان غليون الذي ذهب بها إلى حد بعيد.

لا يعني أبداً أن لا ترى إشكاليات المجتمع وعوائق الانتقال الديمقراطي فيه إن كنت ترى الحل سياسوياً، لكن معظم السياسويين يرون في المجتمع، أو كانوا يرون على الأقل، أو بدقة أكثر كانوا يدعون أنهم يرون أن تغيير النظام السياسي هو المفتاح السحري لكل المشكلات، وأن المجتمع كما المتسابق المتحفز عند أول الخط، ما إن يسمع صوت الطلقة حتى يركض مندفعاً للأمام، لكن أثبتت التجربة أنه يمكننا عند سماع الطلقة أن نركض بنفس الاندفاع للخلف.

داعش تشرعن نفسها من ناحية ثقافوية أيضاً، فهي تنظر للكثرة على أنها كثرتها، ولرغبتها على أنها رغبة تلك الكثرة، لا يختلف الأمر عند النصرة أو ال ب ي د أو غيرهم ممن يضعون عناوين ثقافية مدرعة بحمولة إيديولوجية وأحلام فضفاضة وفي الوقت نفسه سخيفة عند وضعها في سياق التقدم الذي شهده السياسي والاجتماعي في العالم، فالمشكلة بالنسبة لهؤلاء بأننا لا نفهمهم، وأنهم يمتلكون الحل، الحل بأن نتغير جميعاً، نقفز لضفة الأمان التي يرسمونها لنا، الأمر أيضاً في كتب الثقافويين العلمانيين، فعزيز العظمة متمسك بالدولة لأنها الحداثة الوحيدة في حياتنا المتخلفة، ورغم أنه لا يحب الديكتاتورية، لكنه مع ذلك يرى ضرورتها ويسكت عنها إن كانت هي الدولة، أما الطرابيشي فهو متضايق من صندوق الرأس لدينا، ولا يرى المشكلة في انعدام صندوق الاقتراع بقدر فراغ صندوق رأسنا من القيم الديمقراطية، من ناحية أخرى يرى برهان غليون أن تغيير النظام سيأتي بالديمقراطية وكما لو أنها تختبئ تحت وسادة الأسد، أو لنقل أنه كان يرى ذلك.

لكن فعلياً مشكلتنا ليست مع داعش وغيرها من القوى المتطرفة، على ما لهم من منغصات، مشكلتنا مع الثقافة فعلاً، ولكن ليس ثقافة المجتمعات، وإنما ثقافة النخب السياسية، تلك التي حرصت على ممارسة الشأن العام لتصل للديمقراطية، ديمقراطية من خلال متابعة مساراتهم لا يمكننا لليوم فهمها، فهي تختلف عن كل ما تم تداوله في الكتب.

إن الديمقراطية كفكرة هي جديدة على نخبنا، فقبل سقوط الاتحاد السوفييتي بيوم كان الكل اشتراكيين كارهين لليبرالية الإمبريالية التي تحاول سرقة الإنسان من ذاته لتجعله عبد آلة الإنتاج التي تدر لصاحبها المال، حتى الإسلاميون رأوا الإسلام أكثر اشتراكية من ماركس حينها، وعلى الرغم من مراجعات عدة ظهرت قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكن سقوطه كان منطلقاً لتملأ الديمقراطية الليبرالية الغربية قلوب نخبنا سعادة، وأعداء الأمس الذين نشبت بينهم معارك حتى في سجون النظام باتوا أحبة، حتى تم إعلان المراقب العام للإخوان المسلمين من قبل الأمين العام لحزب الشعب - الذي أصبح فيها ديمقراطياً - عضواً في قيادة إعلان دمشق حباً لا اقتراعاً.

نأتي إلى النقطة المهمة، كيف لنا أن نتعلم الديمقراطية، كيف لنا أن ننشرها ثقافة إن كان من ينظر لها بيننا لا يتبناها؟ إن التيارات السياسية التي نشأت وما زالت تنشأ منذ بداية الثورة حتى اليوم تمنحنا درساً مهما في لا ديمقراطية الديمقراطيين، هناك مجموعة من الأسماء هم المؤسسون لكل تلك التيارات، ولا بأس أن تكون مبادراً على أن تكون ديمقراطياً، لم نشهد في يومٍ من الأيام من هذه الأسماء أشخاصا في الصف الثاني أو الثالث، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال شعبيتهم الجارفة، ولكن شرعيتهم اللامنطقية، فعلى سبيل المثال في أحد الانتخابات لتيار اعتبر نفسه درع الديمقراطية الأول في سوريا لم ينجح أحد الداعين لهذا التيار في الانتخابات، وهو من نجوم السياسة، لنقل ذلك، في صفوف المعارضة ، لكنه "زعل" فتم تعيينه، وحجته أن الناجحين لم يكونوا كفئاً بل منهم "عملاء"، وهنا لا نصدقه ولا نكذبه، لكننا نحاول فقط أن يسمح لنا بالقول، أن تكون ديمقراطيا لا يعني أن تقبل بالنتائج التي تجلب الناجحين، ليس من مهمة الديمقراطية أن تضع الأكثر فهما، نجاحاً، وطنية، سمها ما شئت، في القيادة، مهمتها أن تعي تماماً مكانك في صدر القاعة، أو في المقاعد المقابلة تعارضها، ومن ذلك التعارض والنقاش تنشأ القرارات وتتغير وجهات النظر ويأتي الصندوق مرة أخرى ليقرر إن كنت ستذهب لصدر القاعة أم لا، "الزعل" ليس أداة من أدوات الديمقراطية.

على الطرف الآخر وعبر كل التجارب العملية أثبت الإسلاميون، ولا نقول الإخوان المسلمون، وإنما تيارهم الذي ينادي بالديمقراطية، أثبتوا في كل المناسبات أنهم لا يؤمنون بالشراكة التي لا تأتي بهم على رأس الكومة، على اعتبار أنهم يمثلون "أكثرية المجتمع"، وقلنا الإسلاميون "الديمقراطيون" لأن كل من تسأله عن انتمائه للإخوان يجيبك بعبارة باتت جملة يتندر بها السوريون "أنا مالي أخوان".

إذاً، لا "علمانيونا" ولا" إسلاميونا" الديمقراطيون أثبتوا بالتجربة العملية أنهم ديمقراطيون، فكيف يمكننا الوصول إلى نظام ديمقراطي؟

لم يتولد لليوم تجمع سياسي ديمقراطي تحكمه علاقات ديمقراطية، وهنا نستثني بعض التجمعات الصغيرة، التي لا تملك أو لا يسمح لها أن تملك تأثيرا، والتي يمكن أن نشهد فيها بعض العلاقات الديمقراطية.

في مجتمع لم تزره الثقافة الديمقراطية في تاريخه، بل تم دائما تغذيته بثقافة مضادة، ولم تراع نخبه الديمقراطية أي اعتبار للديمقراطية في ممارساتها وسلوكياتها وعلاقاتها وبناها، ويحكمه نظام مجرم حرب، كيف له أن ينتقل للدولة الديمقراطية؟ ما زالت تجربة العراق وبعدها الأكثر قربا تجربة مصر ماثلة أمامنا، فهل علينا الإيمان بالثقافوية، والاستسلام "للاستثناء العربي"؟ أم علينا أن نسلم أمرنا وننسى النظام الديمقراطي، ونبحث عن نظام آخر؟ كثير يتحدثون عن البطل المخلص، القائد الضرورة، المستبد العادل، على أن التاريخ لم يتحدث عن مستبدين عادلين إلا بأقلام كتاب بلاطهم، فالاستبداد يستدعي بالضرورة نقض العدل، هل نذهب لنتفاوض مع الأسد إذاً على العودة على أن يلتزم بأن لا يقتلنا أو لا يعتقلنا، ويسمح لنا إن أمكن أن نترشح على قائمة الجبهة؟

الديمقراطية هي الحل الوحيد ليس لأنها النظام الكامل، وإنما لأنها الأقل ضرراً، وعلينا أن نفكر بنظام سياسي يحد من العامل البشري الذي يبدو أنه يدعي الديمقراطية ولكنه لا يريد الانتقال إليها

يتحدث عزمي بشارة في كتابه عن الانتقال الديمقراطي عن عوامل مؤثرة شددت عليها التجربة العربية، عاملان منهما من يؤثران في العملية السياسية من خارجها، المؤسسة العسكرية والعامل الخارجي، وعامل من داخلها، وهو الثقافة السياسية أو الثقافة المدنية كما جاء في تعريفها الأصيل عند ليبست وفيربا، ولكنه لا ينحو هذا النحو كما يفعل الثقافويون، وإنما يشدد على الجانب السياسي للحل، لذلك يركز على الثقافة السياسية للنخب المشاركة في صناعة القرار حكما ومعارضة، وأن تلك الثقافة إن لم تلتزم خطاً ديمقراطياً فلا يمكن بأي حال تحقيق الانتقال الديمقراطي، لا يشترط بشارة إذاً تغيير ثقافة المجتمع، لكنه يؤكد على تغيير في الثقافة كشرط لازم للانتقال الديمقراطي، تغيير في الثقافة لدى المجتمع السياسي، وهذا ما لم تلمسه الساحة السورية في كل مناسباتها.

الديمقراطية هي الحل الوحيد ليس لأنها النظام الكامل، وإنما لأنها الأقل ضرراً، وعلينا أن نفكر بنظام سياسي يحد من العامل البشري الذي يبدو أنه يدعي الديمقراطية ولكنه لا يريد الانتقال إليها، أو على الأقل لا يعرف كيف، علينا أن نفكر بنظام سياسي يجعل الديمقراطية مساراً حتمياً أمام أعضائه، ويحصرهم في إطار ادعاءاتهم، ثم بعد ذلك يسمح لنا ذلك النظام بخوض الاحتمالات والتجارب، نظام ينهي كل الأشكال الإيديولوجية قانونيا، عبر نظم وقوانين واضحة لا تمنح عناصر النظام السياسي لبوساً ديمقراطياً احتفالياً ولا تعجز عن سبر النوايا، قوانين تجعل من ولوج تلك النوايا للمجتمع السياسي أمراً صعباً، شيء أشد تناقضاً من المستبد العادل، أشبه "بالمستبد الديمقراطي"، ليس شخصاً وإنما حزمة أنظمة وقوانين.