كيف سيتعايش السوريون مع تفشي الجريمة وغياب القانون؟!

2023.05.31 | 07:08 دمشق

آخر تحديث: 31.05.2023 | 07:08 دمشق

كيف سيتعايش السوريون مع تفشي الجريمة وغياب القانون؟!
+A
حجم الخط
-A

لم يعرف السوريون سيادة القانون منذ زمن طويل، ففي تاريخ سوريا الحديث، قلّما نرى فترة طويلة من استقرار الدولة ومؤسساتها، وبوصول حزب البعث إلى السلطة، ازداد الأمر سوءاً إذ أصبح البعث فوق الدولة والمجتمع، وبلغ السوء منتهاه عندما تولى حافظ الأسد الحكم بعد انقلابه العسكري، فأصبحت العائلة فوق البعث والدولة والمجتمع، وبالتالي فوق القانون والدستور.

لم يكن تغييب القانون بصفته الناظم الأساسي لعلاقة أفراد المجتع فيما بينهم، أو في علاقتهم بالدولة وغير ذلك، حدثاً عابراً، أو يحدث في حالات اضطرارية، بل كان غياباً كاملاً في مجالات كثيرة، مثل الحياة السياسية، وعمل الأحزاب، والإعلام وحرية الرأي، وكان يغيب أحياناً في حالات أخرى كثيرة، خصوصاً عندما تتطلب مصلحة المافيا الحاكمة أو مصلحة فرد فيها تغييبه، ولم يكن أي سوري ليجرؤ على الادّعاء على شخص يمتّ للمافيا الحاكمة بصلة، ويتذكر السوريون جيداً كيف انتهكت أفراد هذه المافيا أملاك بعضهم، وأعراضهم، وحقوقهم، وكراماتهم دون أي مساءلة أو محاسبة.

أدّت سياسة تغييب القانون، وفتح الباب أمام الجريمة المسكوت عنها إلى نشوء ثقافة لم تعد تعترف بالقانون، ولا تفهم معناه، ولا تقيم له أهمية، ولم تعد تعترف بأي حق، أو حماية، أو حرمة للآخر الضعيف

عندما انفجرت الثورة السورية، لجأت المافيا الحاكمة في سوريا لوضع القانون على الرف - كما يُقال- واستبدلته بقانون خاص يستند إلى  معيار وحيد، هو أين يقف الفرد السوري من النظام، فمن يقف معه يصبح خارج المساءلة ويمكنه استباحة الآخرين، ومن يقف ضده يصبح مستباحاً ويحق لمن شاء انتهاك حقوقه، وهكذا تفشت الجريمة وانتشرت على مرآى الدولة والمجتمع بتواطؤ مؤسسات القضاء ومؤسسات الأمن، وأصبح القتل، والسرقة وبيع المسروقات علناً، والاستيلاء على أموال السوريين، وأرزاقهم وبيوتهم مألوفاً، ويتم بدعم وحماية من قوات النظام.

أدّت سياسة تغييب القانون، وفتح الباب أمام الجريمة المسكوت عنها إلى نشوء ثقافة لم تعد تعترف بالقانون، ولاتفهم معناه، ولا تقيم له أهمية، ولم تعد تعترف بأي حق، أو حماية، أو حرمة للآخر الضعيف، وغير القادر على حماية نفسه، وكان الشرط الوحيد اللازم لحماية أي منتهِك للقانون أو منتهك لحقوق الآخرين، أن يكون منخرطاً في إحدى مؤسسات المافيا الحاكمة، وهكذا انقسم المجتمع إلى مجتمعات، فهناك مجتمع المافيا وأفرادها ومن يدور من فلكها، وهناك المجتمع المستهدف من مجتمع المافيا، وهناك المجتمع المختبئ وراء فقره وصمته، فلا هو محمي من المافيا، ولا هو هدف بسبب فقره.

أدى اعتماد "الدولة المافيوية" على موالين لا يقيمون وزنا للقانون، كونهم خارج المساءلة، وقادرون على الإفلات من العقاب، وبسبب استمرار هذه الحالة لسنوات طويلة، إلى وضع جديد لم تحسب قيادة السلطة "المافيا" حسابه، فهي عملت على أن تحمي هؤلاء لفترة تنتهي عند إخضاع المجتمع، واستكانته، وبالتالي ترسيخ سيطرتها عليه فتقوم بعدها بالتضحية بهم، لكنها اكتشفت بعد سنوات أنهم أصبحوا أقوى من أن يُضحّى بهم، وأنهم أصبحوا جزءاً أساسياً من بنية المافيا الحاكمة.

اليوم أصبحت سوريا بلداً متخلفاً وضعيفاً، يغيب فيه القانون، وتنتشر فيه البطالة، والفقر، وتتردى أوضاع الناس المعيشية إلى حدود متدنية جداً، بحيث أصبح مايزيد على 90% من الشعب السوري تحت خط الفقر الشديد، وتنتشر فيه الجريمة، والجهات التي يفترض بها حماية المجتمع من الجريمة، هي التي تدير الجريمة وترعاها.

في الموقع المتخصص بدراسة الجريمة وانتشارها في العالم " Numbeo crime index" نجد أن "دمشق" تحتل المرتبة الثانية بعد العاصمة الأفغانية "كابل"، في معدلات الجريمة آسيوياً، وحسب المصدر نفسه، فإن سوريا تقع في المرتبة 161 من أصل 163 من حيث الأمن والسلام فيها، ولا يأتي خلفها عالمياً إلا دولتان هما اليمن وأفغانستان، وفي إحصائيات صادرة عن إدارة الأمن الجنائي في دمشق حول الجريمة، نجد أن دمشق شهدت 7500 جريمة ما بين مطلع كانون الثاني "يناير" ونهاية أيلول "سبتمبر" من العام 2021م.

ليست "الدولة السورية" بأجهزتها الفاسدة، وعصاباتها، من يرتكب الجريمة المنظمة في سوريا فقط، فهناك الميليشيات التي تتبع لإيران، والتي لا تخضع لمراقبة أي جهة سورية

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن جرائم كثيرة لا يتم تسجيلها أو الإعلان عنها في سوريا، فضلا عن أن كل الأرقام أو المؤشرات التي تكون "الدولة السورية " مصدرها مشكوك فيها، وغير حقيقية، ومزورة لأنها توضع حسب مصلحة السلطة وأهدافها، وبالتالي فإن سوريا اليوم هي بلد ترتع فيه الجريمة، وتتفشى، وتحيل المجتمع السوري إلى بؤرة من الرعب، والخوف وتعزز من انتشار الجريمة وتجذّرها.

ليست "الدولة السورية" بأجهزتها الفاسدة، وعصاباتها، من يرتكب الجريمة المنظمة في سوريا فقط، فهناك الميليشيات التي تتبع لإيران، والتي لا تخضع لمراقبة أي جهة سورية، ولا يحق لأي جهة سورية مراقبتها، وهي تُشكّل الحلقة المركزية في شبكة إنتاج المخدرات، وتهريبها وبيعها داخل سوريا وخارجها، والأطراف السورية المنخرطة في شبكة المخدرات تتبع لهذه الميليشيات، وتعمل بإمرتها، وبالتالي فإن قدرة الدولة السورية على وقفها، أو الحد منها، هي في حدودها الدنيا إن لم تكن معدومة تماماً.

الجرائم التي تتشارك بها أطراف عدة تتبع للمافيا السورية أو للميليشيا الإيرانية، أو غيرها ليست محصورة في المخدرات، لا بل ربما تكون المخدرات أهونها، فهناك جرائم تهريب الآثار السورية، وهناك جرائم استملاك عقارات السوريين وتزوير وثائقها، ومن ثم تمليكها لأفراد ليسوا سوريين، أو سوريين يتبعون لها بهدف تغيير التركيبة السكانية.

أمام هذا التفشي المريع للجريمة على اختلاف أنواعها، ماذا يمكن للسوريين أن يفعلوا، وهل سيظل السوريون يبحثون عن علاقة ما مع جهة قوية كي يحموا أنفسهم، كما كان الحال عليه منذ زمن طويل، أم أنهم سيضطرون إلى خلق آليات دفاع خاصة بهم؟

المشكلة التي أوصلت سوريا إلى هذه الكارثة، لم تكن طبيعة النظام الحاكم فقط، ولم تكن سنوات القمع والنهب والإفساد فقط، بل ربما لم تكن لكل هذه الأسباب قدرة على كل هذا الفعل، لولا أن ثقافة الخلاص الفردي كانت الثقافة الأكثر حضوراً في علاقة السوريين فيما بينهم، والتي تتفاقم اليوم لتصبح الثقافة الوحيدة السائدة، والتي تؤسس لمجتمع بلا أمان، وبمستويات عالية من الجريمة.