كيف ساهم فساد التمويل بتخريب الصحافة السورية البديلة؟

2020.05.27 | 23:52 دمشق

438.jpeg
+A
حجم الخط
-A

ملفان مهمان تم نشرهما خلال الشهور الثلاثة الماضية يتحدثان عن واقع الإعلام السوري الجديد الذي اصطلح على تسميته بالإعلام البديل.

الأول تقرير نشره موقع مركز (ميدل إيست إي MEE) في شباط الماضي يتحدث عن مراجعة لعمل الحكومة البريطانية في مجال تمويل الوسائل الإعلامية السورية المناهضة لنظام الأسد والمعادية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تتضمن الإشارة إلى وقوع أخطاء قد ترقى إلى مخالفات للقوانين البريطانية!

أما الثاني فهو دراسة مسحية أصدرها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير حملت عنوان: "الإعلام السوري.. خارطة الوسائل الفاعلة وتقييم الواقع المؤسساتي للناشئ منها بعد 2011" هدفت إلى "رسم خريطة شاملة للإعلام السوري تتضمن إحصاء كافة وسائل الإعلام السورية الفاعلة والعاملة، بما فيها الوسائل المؤسسة قبل الثورة السورية، وتقسيمها تبعا لنوعها الإعلامي وانتشارها الجغرافي وطبيعة ملكيتها وتاريخ تأسيسها واللغات التي تستخدمها". وأيضاً "إجراء تقييم عام للواقع المؤسساتي لوسائل الإعلام الناشئة بعد العام 2011 واحتياجاتها، وصولاً إلى معرفة دقيقة حول واقعها المؤسساتي (إداري، تنظيمي، قانوني، مالي،) واحتياجاتها لتكون قادرة على خلق نمط إعلامي جديد في سوريا". وكذلك "توثيق هذه المرحلة المهمة والخطيرة من تاريخ الإعلام السوري بشكل موضوعي ومنهجي يشكل مرجعاً تاريخياً للمهتمين والباحثين في هذا المجال". فضلاً عن "خلق قاعدة بيانات شاملة وتفصيلية لوسائل الإعلام السورية الفاعلة، تساعد المنظمات الدولية الداعمة للإعلام على توجيه الدعم وفقاً للاحتياجات الحقيقية، كما تساعد وسائل الإعلام ذاتها على وضع برامج تطوير أدائها وتنمية قدراتها التنافسية فيما بينها".

فعلياً وضمن سياق السنوات الأربع الماضية، كان موضوع هذا القطاع والبحث في شؤونه ومشاكله والبحث عن نجاحاته هو المادة الأثيرة والمحببة لكل من تضيق به دنيا الأخبار والأحداث ولا يجد مواضيع صحفية مهمة أمامه، إذ بعد أن يفرد أوراق هذا الملف على الطاولة، سرعان ما سيجد حيثيات جديدة وتفاصيل إضافية، يمكن لذكرها، ووضع علامات التعجب والاستفهام حولها، أن يسود صفحات الجرائد بالكلمات ويرصفَ باكتظاظٍ سطورَ المقالات على المواقع الإلكترونية!

يمكن لأي مستغرب لما نذكره هنا أن يكتب في خانة البحث على المتصفحات عبارة " الإعلام البديل" لتنسدل أمامه نتائج عارمة من المقالات والأبحاث، كثيرٌ منها غث وغير ذي فائدة يلوك ما تم قوله في الأمر منذ سنوات، وقليل منها توخى الدقة في عمله، وجعل من المصداقية في البحث هدفاً له، وبما يؤرخ بصدقٍ لواحدٍ من أهم منجزات الثورة السورية!

على المستوى الشخصي، في المجلد الخاص بهذا الأمر على حاسوبي الشخصي تتجمع عشرات المقالات والأبحاث، شاركت في عدد منها، عبر شهادات تحدثت فيها عن عملي في هذا الإعلام، منذ انشقاقي عن إعلام النظام. في العدد الأكبر منها كنت منتقداً قاسياً، وبما كفل لي أن يعاديني عدد من القائمين على بعض الوسائل الإعلامية!

كنت أدافع وبشراسة وقسوة عن المنجز برمته أمام هجمات بعض الإعلاميين المحترفين، الذين لم يجدوا طريقة لإثبات حضورهم سوى مهاجمة التجربة والقائمين عليها!

ولكنني ورغم رأيي المتحفظ على غياب المهنية، وسمة الخفة التي تلتف على عمل الكثيرين في هذا المجال، فإنني كنت أدافع وبشراسة وقسوة عن المنجز برمته أمام هجمات بعض الإعلاميين المحترفين، الذين لم يجدوا طريقة لإثبات حضورهم سوى مهاجمة التجربة والقائمين عليها! كما أنني لم أوفر طاقتي في الدفاع عن كل ما أصدره الصحفيون الشباب، أمام هجمات الإعلام الآخر الذي يعمل ضمن أجندات الدفاع عن النظام.

كنت أرى وما زلت أن حمولة الثورة السورية بوصفها فعل تغيير جذري، ستلقي بحضورها على كل مناحي الحياة السورية، وبالتأكيد في مقدمتها الإعلام، وبالتالي فإن الدفاع عن التجربة والامتثال لفشلها، والحديث عنه قبل التحدث عن نجاحاتها والإشادة بها، هو أهم ما يفعله الصحفي الذي ينتمي لتيار التغيير.

الملفان اللذان نتحدث عنهما أعلاه مرتبطان ببعضهما رغم عدم وجود رابط بين الجهتين اللتين قامتا بإعدادهما، حيث سنلاحظ أن قائمة أهداف الثاني تنتهي عند النقطة التي يعمل عليها الأول، فمسألة التمويل وكذلك الجهات الفاعلة في دعم الإعلام البديل كانت ومنذ البداية نقطة إشكالية طيلة سنوات عمل الوسائل الإعلامية الجديدة، ومن الطبيعي أن تبقى مسألة كهذه عالقة ومثيرة للاهتمام، وهي حقيقة لم تبدأ مع وجود هذه المؤسسات بل إن عمرها هو من عمر الصحافة ذاتها، فبدون المال لا تقوم للإعلام قائمة، ورغم وجود الإعلام الممول من قبل دافعي الضرائب في كل بلدان العالم، إلا أن وجود إعلام يتلقى التمويل من جهات غير حكومية ظلت مسألة حيوية في تاريخ الصحافة.

ويذكر تاريخ المهنة أن المؤسسات الإعلامية المستقلة عن الدولة وغير المملوكة من القطاع الخاص، كانت دائماً تتلقى التمويلات ضمن مشاريع وخطط تقوم بها مؤسسات دولية، أو مؤسسات حكومية غربية أو شرقية، تهدف من وراء ذلك إلى دعم أجندات معينة، عملت في غالبيتها تحت عناوين مهمة كدعم الديموقراطية أو الإعلام الذي يستجيب أو الحساس للقضايا الخاصة كالجندرة وقضايا المرأة وغير ذلك.

يبحث الملف الذي نشره موقع مركز (ميدل إيست إي MEE) في عملية مراجعة تم إجراؤها في صيف عام 2016  لخطط التمويل الذي بذلته الحكومة البريطانية، وبحسب ملخص ترجمته الذي نشره موقع نون بوست، يبدو السياق غير مرحب بتجربة دعم الوسائل الإعلامية السورية البديلة، فكثيرٌ من المسؤولين في الحكومة البريطانية "لم يتضح لديهم ما الذي يمكن أن تحققه أو لا تحققه الاتصالات الاستراتيجية"، وقيل إن أوساط المسؤولين في الحكومة سادها "شح في فهم ما الذي يحتاجه بالفعل الجمهور السوري أو ما الذي يفكر فيه".

ورغم وجود التباينات في تقييم النتائج التي حصل البرنامج عليها، بقيت أصابع الخلل في السياق تشير إلى أن الأخطاء التي ارتكبت هنا تعود للشركات التي تولت تنفيذ خططه، والتي سميت بالمتعهدين.

فهؤلاء وبحسب تجارب أعرفها شخصياً، ويعرفها كل مسؤولي الصحافة البديلة كانوا مهتمين بالربح، أكثر من اهتمامهم بتأسيس وسائل إعلامية راسخة، فهم ورغم كونهم يستولون على ما يتجاوز 50% من قيمة التمويل تحت مسمى المصاريف الإدارية والتقنية (شككت المراجعة في تكاليف البرنامج، ورأت بأن جميع شركات الاتصالات كانت قد تلكأت وتأخرت كثيراً في إخضاع حساباتها المالية لتدقيق خارجي)، كانوا يتدخلون بطريقة غير احترافية في سياق عمل الصحفيين، ويفرضون على المؤسسات التي يتولون عملية دعمها خططاً مبنية على الكم وليس على النوع، وهذا ما تلاحظه المراجعة، فـ"المشاريع دفعت باتجاه مكاسب سريعة وسطحية ونتائج مدفوعة بالأرقام".

كما أن الغرض كان "تضخيم العمل الصحفي للمواطنين السوريين"! فضلاً عن ارتباط بعض هؤلاء المتعهدين بأعمال لا تنتمي للحقل الإعلامي، وضمن غايات بعيدة عنه كل البعد، لا سيما مسألة تحويل المراسلين المحليين (المواطنين الصحفيين) إلى جامعي معلومات يتم تزويد الأجهزة الاستخباراتية بها!

وهذا الأمر يبدو غير مستغرب حين نعلم وكما تذكر المراجعة أن البرامج التي تتقاسمها وزارتا الدفاع والخارجية "كُلفت بها شركات اتصالات بريطانية، بعضها تدار من قبل ضباط سابقين في الجيش أو المخابرات". إذ "أقامت هذه الشركات لنفسها مكاتب في إسطنبول وعمان، حيث كانت تجند السوريين للقيام بمجمل المهام اليومية".

لكن وبالبحث في نتائج فعالية البرامج والتي لا بد ستكون مرتبطة بنتائج دراسة خريطة تلقي هذه الوسائل الإذاعية والصحفية الورقية والإلكترونية، تذهب المراجعة التي احتفت بها بعض وسائل إعلام النظام إلى أن أوساط المسؤولين في الحكومة سادها "شح في فهم ما الذي يحتاجه بالفعل الجمهور السوري أو ما الذي يفكر فيه". ولكنها تذكر أن "نقاشات المجموعات وما ورد من حكايات واستطلاعات يشير إلى أن الجماهير المستهدفة التأمت مع المنتجات وتلقفت الرسائل المقصودة، بما يثبت أن المشروع كان فعالاً".

وحول هذه المسألة يتذكر كثيرون ممن عملوا في الإذاعات السورية، كيف أن عملية تقييم المنتجات التي كانوا يصنعونها كانت تخضع لاستبيانات رأي يتولاها وكلاء محليون، كانوا في معظم الأحيان يقومون بتعبئة مئات الأوراق بأنفسهم وليس توزيعها على العينات المستهدفة، ما يحول فعلياً دون اعتبارها استبيانات حقيقية يمكن اعتمادها للتقييم، ما أثر على استمرار الدعم للكثير من هذه المؤسسات بحجة عدم وصولوها للجمهور أو عدم رضى الجمهور عن منتجاتها!

إضافة إلى تحكم العلاقات الشخصية و"الولائم والعزائم" بين مديري الشركات (المتعهدين) وبين بعض مديري المؤسسات الإعلامية، بتقدير قيمة الدعم، وطبيعته، والتوجهات العامة للوسيلة الإعلامية!

غير أن ربط كل المعطيات التي انتهت إليها المراجعة بالسياق الحكومي البريطاني، يظهر أن المراجعة لم تفصح عن التقييم الفاعل والمقرر لاستمرار المشروع تاركة النتائج النهائية سرية وغير متاحة للعموم!

وفي الجهة المقابلة -إذا جاز لنا أن نصنع تقابلاً بين الملفين-نرى كيف أن رؤية البحث الذي يقدمه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير تحاول أن تبني عتبة مستقبلية للقطاع الإعلامي السوري برمته، فهي تنظر إلى المشهد بأكمله ولا تقصر معالجتها للإعلام البديل، بل هي تدفع بمجسات عملها صوب الإعلام العامل في مناطق النظام، لا سيما الإعلام الحكومي، والاحتمالات المستقبلية لسيرورة العمل الصحفي في سوريا ككل.

فبحسب الدراسة جرى تقسيم موارد المؤسسات إلى مجموعة تعتمد على دعم تيار سياسي، وإلى أخرى ذات تمويل حكومي (جهة السيطرة: معارضة أو إدارة ذاتية أو حكومة النظام) وأيضاً مجموعة تعتمد في تمويلها على دعم رجال الأعمال، وتلك التي تعتمد على أكثر من مصدر للتمويل، وأخيراً المجموعة التي تعتمد على المنظمات الدولية الداعمة للإعلام.

لابأس من أن يقوم المعنيون بدراسة تجارب مشابهة في بلدان عربية وأجنبية عاشت ظروفاً مماثلة للحالة السورية، إذ يحتاج السوق الإعلامي إلى التخلص من نمط العلاقات التي يفرضها النظام على الفاعلين فيه

وإزاء النتائج التي خرجت بها الدراسة، فإن أهم التوصيات التي انبثقت عنها هي تلك التي أشارت إلى الإشـكاليات الخطيرة التي قد تهـدد وجود المؤسسات الإعلامية بشـكل عام، "خاصـة تلـك المتعلقـة بالتمويـل وطبيعتـه وارتباطه بشـكل كبيـر بجهات غير مسـتقرة وبظـروف متغيرة، الأمر الـذي يؤكـد... بـأن خريطة الإعلام السـوري ما تـزال قلقة وقابلـة للتغييـر وفـق عـدة عوامـل ومتغيـرات، على رأسـها التمويل وارتباطه بالظرف السياسـي والعسـكري المتغّير للملف السـوري، ما يرتب على وسـائل ومؤسسـات الإعلام السـورية السـعي لتنويع مصادر الدعـم ومحاولـة خلـق مصـادر بديلـة مسـتدامة تضمن اسـتمراريتها واسـتقلاليتها على المـدى الطويل"   

هذه التوصية تعيد إلى الواجهة جزءاً من النقاشات التي جرت في اجتماعات الإعلام البديل، وعلى وجه الخصوص منه الإذاعات (اجتماع غازي عينتاب في أيلول عام 2015)، حيال ما يمكن أن يحدث في المرحلة القادمة التي ستلي سقوط الديكتاتورية، حين سيتلاشى تمويل المشاريع الأجنبية، وستجد المؤسسات الإعلامية نفسها في مواجهة استحقاقات علاقات السوق الإعلامية ذاتها، حين لا ينفع العمل الصحفي دون وجود سوق إعلانية، توفر للمؤسسات التمويل المناسب أو جزءاً منه!

هنا لابأس من أن يقوم المعنيون بدراسة تجارب مشابهة في بلدان عربية وأجنبية عاشت ظروفاً مماثلة للحالة السورية، إذ يحتاج السوق الإعلامي إلى التخلص من نمط العلاقات التي يفرضها النظام على الفاعلين فيه، لا سيما لجهة سيطرته على الموارد الإعلانية وتوزيعه لها على المؤسسات بناءً على علاقات الترابط المصلحية (البطانة المحيطة برأس النظام) وبناء على الولاء له.

ولهذا لا بد لهذا البحث من أن يستكمل عبر دراسات أخرى تحلل واقع السوق الإعلاني في سوريا، وخاصة التفكير بآليات تحريره وبما يعزز من استقلالية الإعلام السوري مستقبلاً!