كيف تحولت ثورة 2011 إلى شهرزاد السرد السوري؟

2023.03.18 | 06:05 دمشق

كيف تحولت ثورة 2011 إلى شهرزاد السرد السوري؟
+A
حجم الخط
-A

فتحت ثورة 2011 في سوريا صناديق الحكايات السورية وصار لكل سوري سرديته. نلتقي بعد سنوات في بلاد مختلفة ليحكي كلٌّ منا سرديته، عن ذاته وخيباته ونجاحاته ومسارات حياته، يتحول كل منا إلى شهرزاد سردي على أمل أن نقاوم فعل التشتت والخسارات والقتل الشهرياري الذي أشْهِرَ في وجوهنا.

كانت حكاياتنا قبل الثورة هادئة، متشابهة، مشوبة بالتنميط والتكرار والتقليد والخوف، حولتها ثورة 2011 إلى حكايات غير تقليدية، حيث جعلتنا نجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه على أمل أن نجد السردية الملائمة لنا. كشفت سنوات تلك الثورة طاقاتنا الكامنة، وأوهامنا كذلك، لم يعد الريب موجوداً فتشتتنا، أطلقت أحلام معظم نسائنا من قماقم مجتمعاتها؛ فوجدن أن هناك إمكانية ليبدأن بصناعة سرديتهن الخاصة بعيداً عن سلطة الرجل.

أوهام سرديتنا المتشابهة النمطية التي كنا نعيش فيها جعلتنا نحسب أننا منفصلون عن العالم، وأن العالم الصغير المسمى سوريا هو البداية والنهاية، وحين خرجنا إلى العالم حاملين أو صانعين لسردياتنا الجديدة وجدنا أن العالم واسع وكبير وجميل، وأن الآخر ليس بالضرورة هو العدو وأن المفاهيم إن طال سكونها ستتعفن وتخنق معتقديها.

أتيح للفرد السوري لأول مرة في تاريخ تشكل دولته الخيار أن يجدد نفسه، وأن ينهض من سرده الذي شكله مجتمعه من قبل

لم تكتف سردياتنا الجديدة التي حملناها أو حملتنا أو صنعناها أو صنعتنا بالتعرف إلى الآخر خارج الحدود، بل تعرف السوريون إلى السوريين أنفسهم من محافظات وحارات وجماعات وأعراق، ومعتقدات أخرى أزالت سرديات وعززت سرديات، لكنها كانت فرصة لصنع سرديات جديدة، وكسر آفاق المتوقع والمعتاد والمكرر والنمطي. ها هو السرد أمامنا فلننسج سرديتنا الجديدة إن كانت لدينا الإرادة والظروف.

أتيح للفرد السوري لأول مرة في تاريخ تشكل دولته الخيار أن يجدد نفسه، وأن ينهض من سرده الذي شكله مجتمعه من قبل، فبقي يدور في عوالمه فترة طويلة، قد تكون الظروف هي التي تتحكم في السرد أحياناً لكن الفرصة متاحة أمام كثيرين ليعيدوا تشكيل سرديتهم في الحياة بدور أكبر لهم كأفراد.

ليس من السر القول: إن ثورة 2011 بصفتها حالة سياسية وعسكرية لم يحالفها التوفيق، أو خاب مسعاها مرحلياً، وليس من باب العزاء أن نقول: إن ما أطلقته من طاقات سورية كان مذهلاً وكبيراً. وليس من الحكمة القول: إنه "كنا عايشين" لأنه كنا عايشين، لكن نصف أموات، وبصفتنا بشراً معطلين، مسجونين. وقد لا يدخل بالحكمة قولنا: ماذا لو أننا لم نخرج؟ ولم نتظاهر ولم نطالب؟ لا يمكن لذلك أن يكون لأن الطقس الذي ولده الربيع العربي لا يمكنك إلا أن تكون جزءاً منه، وإلا فإنك ميت ولا روح فيك!

نبَّهتنا ثورة 2011 إلى أن المشكلة في سوريا ليست فقط في النظام السياسي، إذ كنا نصبُّ جام غضبنا على النظام فحسب، وهو نظام قمعي فاسد تخريبي لا يجب أن يستمر، بل كذلك في جوانب أخرى، حيث كنا نعده خراب العالم لنرتاح ولكي نعيش ككائنات طهرانية، ننتظر "غودو" الذي سيجلب لنا الحرية. لكن ثورتنا كشفت جوانب سردية غامضة فينا كجماعات وكأفراد: جوانب دينية إلغائية، وجوانب اجتماعية وقومية وطائفية وعرقية، وما كنا نعتقد أنه حقيقة في السويداء هو وهم في دير الزور، واليقين في القامشلي هو موضع تشكيك في دمشق، حيث كانت كل جماعة بشرية لديها يقينياتها الخاصة بها، مكتفية بها، ومتاحة في ظلالها ومتصالحة معها.

اكتشفنا في سوريا "العروبة" أن سوريا فيها قوميات أخرى لا تعنيها العروبة، وأن سوريا الجامع كذلك فيها أديان وطوائف لا توليها اهتماماً، وجدنا لأول مرة أن وضع سوريا معقد جداً بتشابكاته الإقليمية والدولية والديموغرافية، وأن ما كانت تعده الكتب المدرسية بالموقع الاستراتيجي وخصوصية سوريا قد يكون وبالاً عليها في مرحلة ما، وعامل إعاقة لنجاح ثورتها، التي علمتنا أن كل يقيننا بات يحتمل النسبية! وأن إسرائيل التي يريد النظام تدميرها منذ عشرات السنين في خطابات سياسييه، قد تكون هي ذاتها عامل إعاقة لعدم نجاح ثورتنا وعدم سقوطه.

كسر سردنا الثوري أفق توقع العالم، فقد كثير منا ماله أو خبرته أو عمله أو جزءاً من أهله، وكذلك البنى القارة التي كنا ننتمي إليها، لكن أتيحت لكثير منا إعادة تشكيل ذواتنا وحكاياتنا الجديدة في العالم، بحرية ومسؤولية، لم ننل الحرية داخل جغرافيتنا لكننا استنشقنا هواءها في جغرافيات أخرى، ولا بدّ أن تهب رياح السرد على جغرافيتنا في زمان لاحق.

لم يشأ السوريون بعد 12 عاماً على بدء ثورتهم أن تتحول سورياهم إلى أربع سوريات لكل منها سرديتها الإدارية والإيديولوجية والفكرية

انكسر جزءٌ من حلمنا في الشأن العام على المستوى الثوري، وانكسر كثير منا في الشأن الخاص والعام معاً، لكن كثيرين منا كانوا صانعين متميزين لسرديات وتجارب تجوب العالم، وتُعرِّف الآخرين إلى الشخصية السورية وتحديها ومغامرتها وخصوصيتها وقوة إرادتها ومحبتها للتجارة والبحث والعمل وفنون الطعام.

الجيل الأول من اللاجئين مثلاً انكسرت الكثير من أحلامه وطموحاته وكثرت خيباته، لكن الجيل التالي، جيل الأبناء يتغلغل في مسارات العالم الرقمية ويصنع سرديته الخاصة.

لم يشأ السوريون بعد 12 عاماً على بدء ثورتهم أن تتحول سورياهم إلى أربع سوريات لكل منها سرديتها الإدارية والإيديولوجية والفكرية، لكن ما المانع أن يكون ذلك كذلك ولماذا نفترض أننا في السرد يجب أن نتطابق؟ هل فاتنا أن السرد يحتاج إلى حكاية وشخصيات وصراع واختلافات ورؤى وتنوع وتعدد، لكن في النهاية لا بد من رؤية ناظمة لشؤون الدول، ولا بد من استراتيجيات فمن سيعيد تنظيم الحكاية السورية مرة أخرى وتقديمها للعالم؟ وبأي لغة سردية: سردية الكبتاغون أم سردية الحرية؟ سردية التشدّد أم سردية العصبية القومية؟ سردية التبعية للآخر أم سردية الاستقلال ضمن منظومة طبيعية للعالم الذي نتشابك معه ونتقاطع وليس بالضرورة أن نعاديه أو نتصارع معه.

أبناء ثورة 2011 في سوريا لن يسمحوا بأن يكونوا بعد اليوم خارج لعبة السردية السورية، وخسارتهم الجغرافية أو العسكرية لا تعني أبداً أنه لم يعد لديهم القدرة على التأثير بمجرى السرد السوري، فالجغرافيا الرقمية اليوم تعبر الحدود، وتهز عروش السرد التقليدي، السؤال الأهم: ما سرديتك؟ وما عناصرها؟ وما هي النواظم لها؟ وما هي المنظومة القيمية التي تحملها؟ وهل سيصدق العالم أخيراً شهرزاد أم شهريار، وهل أسلحة شهريار عابرة للأزمنة ومانحة للانتصار دائماً أم أنها ستصدأ وتتعفن؟ وكم ألف ليلة وليلة سنسردها على العالم وعلى أجيالنا اللاحقة عن: كان يا ما كان، كان هناك شعب خرج إلى الشوارع يطالب بحريته وكرامته فجوبه بالرصاص، وكلما خرج ثانية كانت البراميل تنهمر عليه، وحين استجار بالآخرين أرسلوا إليه أسوأ بضاعتهم المتطرفة، فاختلطت عوالم السرد ببعضها بعضا، لكن الحكاية بقيت هي هي: ثورة 2011 هي البوصلة وفاتحة السرد ومنتهاه في عالم ألف ليلة وليلة السوري.