كيف بدت سوريا في القرن الثامن عشر لرحالة وفيلسوف فرنسي؟

2021.07.07 | 06:20 دمشق

5c310e53-c8b4-4e03-9678-48709ed64e32.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعد كتب الرحالة الغربيين من المراجع التي تكشف قليلاً عن تاريخ بلاد الشام خلال العهد العثماني في القرن الثامن عشر، خصوصاً إذا كان هذا الكتاب "سوريا ولبنان وفلسطين في القرن الثامن عشر" قد نال استحسان أهل الحكم في عصره، فتم تكريم كاتبه وهو الرحالة والمستشرق والفيلسوف قسطنطين دو فولني، من قبل الإمبراطورة الروسية كاترين، أضف إلى ذلك أن دو فولني الذي كان صديقاً لنابليون بونابرت، كان كتابه مرجعاً له أثناء حملة نابليون على مصر، حتى قال أحد جنرالات الحملة الكبار "إن كتاب دو فولني دليل الفرنسيين الأمين، وهو وحده الذي لم يغشهم".

انطباعات.. بعضها سطحي

رحلة دو فولني استمرت ثلاث سنين من عام 1784 حتى 1787 بين مصر وبلاد الشام، وخرج منها بهذا الكتاب على جزأين، الجزء الأول يتكلم عن سكان بلاد الشام وأعراقهم وطوائفهم، وتاريخهم السياسي في تلك الفترة، والجزء الثاني عن أهم المدن فيها والصناعة والتجارة والفنون، والكتاب صدر في أربعينيات القرن الماضي بترجمة وتحقيق حبيب السيوفي، لا يبدو أنه رغم أهميته قد صدر منه طبعات جديدة بتحقيقات مختلفة، وأنا في هذه القراءة سأتناول من الكتاب بعض النقاط فقط.

صحيح أن الكتاب مهم لمعرفة تفاصيل شبه غائبة عن الحياة في سوريا ومدنها، طريقة تفكير الفرنسيين ورؤيتهم للآخرين حينذاك، ولكنه يبقى في بعض أجزائه عبارة عن انطباعات يحمّلها الكاتب آراءه السياسية كفرنسي، وبعضها سطحي، يفتقد للعمق الذي نراه عند المستشرقين، فالاستشراق في ذلك الوقت لم يكن قد اشتد عوده، لذلك نرى معلوماته في بعض الأحيان أشبه بالأحاديث الشفوية التي يتناولها الناس عن الطوائف دون أي تدقيق، فمثلاً عندما يتكلم عن المتاولة، لا يذكر أنهم شيعة اثنا عشرية، ولا يذكر الفرق بينهم وبين غيرهم، رغم أن هذا الموضوع أثار اهتماماً كبيراً لدى المستشرقين، "وكانت بلاد المتاولة تشمل وادي البقاع حتى صور، غير أن هذا الشعب كاد يمسي من الشعوب البائدة من جراء ثورة قاموا بها".

إعجاب بالبدو

أقام دو فولني فترة عند البدو العرب فأعجب بهم وبخصالهم، وهم ليسوا الرحَّل الوحيدين في المنطقة "أما التركمان والأكراد والبدو فليس لهم سكن ثابت، فهم كلهم رحل يتنقلون دوماً بخيامهم وقطعانهم في أراض يعدونها ملكهم".

البدو العرب "قصار قامة ونحيلون وهم مسفَّعو البشرة.. وقد اعتادوا الزهد في الأكل قانعين بلبن مواشيهم وبعض الشيء من التمر، فالبدوي إذاً لم يشتهِ اللحم ولم يهرق الدم ويداه لم تألفا القتل.. إلى أن اكتشف كيف يستخدم الفرس.. فصار يحب الغزو، وإن لقي مقاومة اعتقد أن ما سيغنمه لا يبرر المخاطرة بحياته، ولا يمكن استثارة البدوي إلا بسفك دمه، فتجده عندئذ شديد البأس ميالاً للأخذ بالثأر لو مهما كلف الثمن".

أما حياة البدو الاجتماعية فيسودها الثقة والنزاهة والكرم "الذي يشرِّف أعرق الشعوب مدنية، وهل من شيء أشرف وأفضل من حقوق الضيافة التي يتمتع بها عندهم كل غريب وعابر سبيل.. حتى العدو إذا مس طنب الخيمة يصبح بأمان، فلا يجرؤ أحد على مسه بأذى، ومن العار الذي ليس بعده عار أن يثأر الأعرابي من خصم نزل عليه ضيفاً.. وإذا أكل الخبز والملح مع نزيل لا شيء في الدنيا يستطيع حمله على خيانته، حتى السلطان لا يستطيع إخراج ضيف من القبيلة، بعد أن استجار بها وأجارته، إلا أن تفنى عن بكرة أبيها".

والبدو المتسامحون مع المختلف عنهم دينياً، كونهم غير ملتزمين به، ينظرون بازدراء إلى أقرانهم من العرب المستقرين، ويعدونهم عرباً غير أقحاح وعبيداً للأتراك، الذين يعتبرونهم خونة ومغتصبين، ويسعون دائماً لإلحاق الأذى بهم، حسبما يقول فولني.

حلب ودمشق

حلب ثالث مدن السلطنة العثمانية أهمية بعد إسطنبول والقاهرة، رأى فيها دو فولني ألطف مدن بلاد الشام وأنظفها وأحسنها بناءً، "فمن أين تلجها تعجبك مآذنها العديدة وقبب مساجدها البيضاء المستديرة فتريح ناظريك من رؤية السهل الأغبر الممل والمحيط بها".

أما دمشق التي يسميها العرب الشام، واسمها القديم (دمشق) لم يكن يعرفه سوى أصحاب تقاويم البلدان، والعرب لا يذكرونها إلا بالثناء والإطراء على تناظر بساتينها واخضرار حدائقها ووفرة ثمارها وكثرة غدرانها وصفاء مياهها، وما من مدينة تضاهيها من حيث غزارة مياهها وكثرة سواقيها، "وهي تعد من حيث الموقع أجمل مدائن تركيا قاطبة، ولكن هواءها ليس في غاية النقاوة".

أسعد باشا العظم

وهي أكثر مدن سوريا تعرضاً لغزوات البدو، ولكنها من حيث العمران أحسن وضعاً من باقي الولايات، إذ لا يتم عزل ولاتها بتواتر، كما باقي الولايات، وفي القرن الثامن عشر تولاها ولاة من أسرة العظم لمدة خمسين سنة، وآخرهم أسعد باشا، الذي ظل والياً على دمشق لمدة 15 سنة، "قام خلالها بأعمال لا تعد ولا تحد.. ومنها وضعه نظاماً للجند ردعهم من خلاله عن التعدي على الفلاحين وأملاكهم".

أسعد باشا الذي كان يستهويه جمع المال على غرار كل المسؤولين في الشرق، يقول فولني إنه في أحد الأيام مرت الولاية بضائقة مادية، فاستشار مستشاريه فاقترحوا عليه أن يفرض ضرائب جديدة على المسيحيين وأغنيائهم، فرفض ثم لجأ إلى العديد من تجار المسلمين، وبدأ يهددهم بالشكوى عليهم عند السلطان لمخالفتهم تعاليم الدين، وبعد مساومتهم استطاع الحصول على المبلغ المطلوب، فسأله المستشارون كيف حصلت على المال فقال أسعد باشا "جززت النعاج ولم أنحر الحملان".

أكثر ملاءمة للسكن ولكن..

رغم أنه في كتابه يشير إلى كثرة المدن المهجورة والقرى الخرائب، وأن عدد سكانها تراجع كثيراً خلال القرن الثامن والتاسع عشر، إلا أن عضو الأكاديمية الفرنسية يرى أن سوريا من أكثر الأماكن في العالم ملاءمة للسكن، ولكنها تفتقر إلى الحدائق الخضراء البهيجة التي تتميز بها بعض البلدان الأوروبية، "ولولا الخراب الذي جلبه عليها ابن آدم لكست الغابات معظم أنحائها".

دو شاسبوف، وهي الكنية الحقيقية لـ دو فولني، الذي اختار الكنية الأخيرة التي تجمع بين كلمتي فولتير وفولني، يرى أن عرب ذلك العصر في القرن الثامن عشر ليسوا كعرب هارون الرشيد، فعصر الخلفاء مضى وانقضى وعصر السلاطين العثمانيين لم يبدأ بعد، لذلك فالعلوم والفنون في أقصى درجة من التقهقر، حتى إن رهبان دير مار يوحنا الشوير، الذين أقام دو فولني عندهم فترة ولهم صلات مع الغرب لم يكونوا قد سمعوا بأن الأرض كروية، وكادوا يحسبون دو فولني كافراً زنديقاً، لولا إلقاؤه تبعة دوران الأرض على عاتق علماء بلاده.

هيئات هادئة ووجوه عابسة

ومما استرعى انتباه دو فولني في الشرقيين هو تدينهم وكثرة ترديدهم للأدعية والأذكار، إضافة إلى هيئتهم الهادئة، "وبدلاً من الوجه البشوش لأبناء قومنا ترى ملامحهم رزينة كالحة، فقلما يضحكون، ويعتبرون مرح الفرنسيين من عوارض الجنون".

عندما قفل دو فولني راجعاً إلى بلاده ورأى الفرق بين فرنسا المزدهرة والعامرة وحال بلاد الشام ومصر البائس، ساوره الحزن لأنه تذكر أن هذه البلاد قد كانت عامرة في يوم من الأيام، ما يعني أن فرنسا قد تدور عليها الدائرة وتصبح مثل الشرق، ولكن بعد ما يقارب المئتين وخمسين سنة، لا يبدو إلا أن هذا الشرق يزداد بؤساً.