كيف بدا عبد الناصر في كتاب "جيل الهزيمة"؟

2020.12.20 | 23:01 دمشق

205985_large_20140223082403_11-660x330.jpg
+A
حجم الخط
-A

من العنوان "جيل الهزيمة" يستطيع القارئ أن يستشف السوداوية التي تصبغ كتاب المذكرات، الذي صدر عام 1991، لرئيس الوزراء في حكومة الانفصال عن مصر عام 1961، بشير العظمة (1911-1992)، الذي جاء تعيينه حينها كنوع من تهدئة المصريين بعد الانفصال، فالكاتب إذاً متشائم من النتائج التي وصلت لها المنطقة، وكأنه يحمل جمال عبد الناصر مسؤولية الهزيمة التي مني بها ذلك الجيل، والكتاب صادر عن مسؤول سوري محب للأخير ومحسوب على الناصرية، كيف لا وهو كان وزيراً للصحة في عهد الوحدة مع مصر.

الثورة المصرية التي قادها الضباط الأحرار على الملكية التابعة للبريطانيين عام 1952 كانت بتأييد من الأميركان، الذين كانوا يسعون للحلول مكان البريطانيين في هذه المنطقة الغنية بالنفط، والمهمة استراتيجياً في الحرب الباردة، وحماية أمن دولة إسرائيل.

استطاع عبد الناصر كسب الجماهير العربية بعد " العدوان الثلاثي على مصر"، حيث اضطرت الجيوش الثلاثة الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية للانسحاب نتيجة ضغط أميركي، فكسب عبد الناصر حرباً لم يخضها، وأصبح معبود الجماهير، فاتجه إلى كسر الاحتكار الغربي للسلاح، وشرائه من الكتلة الشرقية، يقول العظمة إن هذه الخطوة جاءت كرد فعل على الأميركيين، الذين كانوا لا يقبلون بأقل من استسلام وسلام بين مصر وإسرائيل، مشدداً على أن العلاقة بين مصر وأميركا ما كانت عدائية إلا كلامياً، وأن الانتماء العربي الذي اكتشفه عبد الناصر" مكشوف الجذور المصلحية" الذي يجعل من مصر فكرياً وثقافياً واقتصادياً، وأسواقاً لتصريف المنتجات من المحيط إلى الخليج.

هذه الفكرة وردت سابقاً في كتاب لعبة الأمم لمايلز كوينلاند، وهو ضابط استخبارات أميركي ومنسق ثورة الضباط الأحرار في مصر، والذي كان كذلك معجباً بعبد الناصر ومقرباً منه، يقول إن الأخير لم يكن قومياً، ولم يزر قبل الثورة التي أطاحت بالملك فاروق أياً من البلدان العربية، حتى فلسطين لم تكن ذات أهمية بالنسبة لعبد الناصر.. ولكنه رأى بعد النكبة وهزيمة جيش الإنقاذ أن الدندنة على هذين الوترين "العروبة وفلسطين" تصنع له شعبية، وهذا ما كان.

يقول العظمة إن إسرائيل والممالك العربية كانوا متأكدين من فشل هذه الوحدة التي ما قامت إلا على أسس عاطفية

 في تلك الآونة كانت سوريا تعاني من تشتت نخبتها السياسية بين المحاور العربية ومن وراء هذه المحاور الدول العظمى الداعمة لها، وفي ظل فشل سياسي، وجد الرئيس شكري القوتلي أن الحل هو بتسليم القياد لعبد الناصر، يقول العظمة إن إسرائيل والممالك العربية كانوا متأكدين من فشل هذه الوحدة التي ما قامت إلا على أسس عاطفية، لذلك وقفت هذه الدول متفرجة هادئة، "وقد طمأنتهم القوى المتفاعلة في هذا التوجه المخادع المتآمر".

كما ذكرنا أن بشير العظمة الطبيب تم اختياره وزيراً للصحة في الحكومة المركزية في القاهرة، يقول إنه والوزراء السوريين قضوا سنتين من دون عمل ولا مسؤولية محددة، وكنوع من المسؤولية قرر الوزير أن يقوم بجولات على المشافي والمراكز الصحية في مصر، ومنها مشفى الأمراض السارية في عين شمس، يقول إنه رأى خلال هذه الجولات "مشاهد لا يمكن وصفها أو تصور وجودها"، وبعد أشهر التقى بعبد الناصر فذكر له ما رأى، إلا أن الأخير كذبه مؤكداً أنه عندما زار المشفى كان بأفضل صورة، ولكن الوزير شدد على أنهم جهزوا أنفسهم جيداً لزيارة الرئيس، وكان هذا الوضع استثنائياً، فلم يعلق عبد الناصر الذي كان "متوتراً ويستعجل نهاية الجلسة غير المريحة".

في الذكرى السنوية الثالثة للعدوان الثلاثي على مصر، خطب عبد الناصر وشن هجوماً عنيفاً على الشيوعية الدولية و"العميل" عبد الكريم القاسم في العراق، يقول العظمة إن هذا الخطاب كان رسالة مفتوحة لدغدغة مشاعر أميركا، وقد ساء العظمة هذا الخطاب، إلا أن الوزراء البعثيين كالحوراني والنفوري والبيطار كانوا فرحين به!، وهم الذين جاء الدور عليهم بعد الشيوعيين، حيث قدموا استقالاتهم جماعياً في الإقليمين.

يذكر العظمة نقلاً عن وزير الثقافة رياض المالكي أن عبد الناصر قال له إن الإعلام والدعاية أهم من القوات المسلحة في مواجهة إسرائيل، لأن الحرب معها نفسية بالدرجة الأولى، فيعلق على هذا العظمة مستنكراً "بالصراخ والتهويش سوف ترتعد إسرائيل وتستسلم!".

بعد شهور من العمل رفع العظمة تقريراً لعبد الناصر عن السياسة الصحية، فنقل وزير شؤون رئاسة الجمهورية إعجاب الرئيس بالتقرير، ثم تم نسيان الأمر، إلا أن العظمة طلب مقابلة الرئيس لمناقشة التقرير، لم يأته الموعد إلا بعد ثلاثة أشهر، وعندما تمت مقابلة عبد الناصر لم يسأله عن التقرير إنما "هل تريد سيارة أو ينقصك أي شيء؟ ابتسمت مشفقاً للمساومة التي اعتاد عليها الرؤساء، يراجعهم الأتباع لمزيد من المكاسب الشخصية".

بعد فترة تم إيفاد الوزير إلى المكسيك للاطلاع على جهود مكافحة الملاريا، وفي أثناء غيابه تم توقيع عقد مع شركة أميركية للدواء بأسعار غالية، فاعترض الوزير كون هذا الموضوع من صلاحياته، فقدم استقالته نتيجة لذلك.

صرح أكرم الحوراني الذي كان مشاركاً في الحكومة أن عبد الناصر عميل أميركي، فرفض العظمة هذا التصريح

لم تحقق الوحدة آمال الذين تحمسوا لقيامها، لذلك اتفقوا على ضرورة إنهائها، وبعد الانفصال تم ترشيح ناظم القدسي لرئاسة الجمهورية السورية وتشكيل حكومة برئاسة مأمون الكزبري، استمرت لعدة أشهر، وبعدها طُلب من العظمة تشكيل حكومة تهادن عبد الناصر الغاضب من انفصال الإقليم الشمالي، فأصدر العظمة بياناً إذاعياً يحدد الخطوات الضرورية لقيام وحدة قابلة للعيش والاستمرار، ولكن عبد الناصر لم يرد على هذا البيان، بل جاء الرد عبر مقال لحسنين هيكل يقول فيه: إن الوزارة السورية غير صالحة للمباحثات الوحدوية، في حين كان الرد على وزير الخارجية السوري عادل الأزهري الذي زار القاهرة أقسى، وهو أن الأخيرة لن تجري مفاوضات إلا مع حكومة تعلن التوبة وتطلب المغفرة. وفي الكواليس يقول العظمة إن القاهرة قد عرضت عليه رصيداً رقمه على بياض في أحد المصارف السويسرية مقابل الاستقالة من منصبه، كنوع من الضغط على نظام الانفصال، ولكنه رفض العرض.

في تلك الأثناء صرح أكرم الحوراني الذي كان مشاركاً في الحكومة أن عبد الناصر عميل أميركي، فرفض العظمة هذا التصريح، "لا يجوز اتهام الآخرين بالخيانة لمجرد اختلاف وجهات النظر والمواقف، وإني أعتقد رغم خلافاتنا بأنه زعيم وطني وصادق". فتعرض على إثر هذا لهجوم من كل الأطراف، قدم عقبها استقالته بعد خمسة شهور من العمل في أجواء الخداع والمؤامرات.

ختاماً.. يقول الوزير في مذكراته إن عبد الناصر "حاول تحقيق الوحدة بالشعارات والخطابات ونسي في نشوة أهازيج الجماهير أن المتربصين الاستعماريين لا يقبلونه إلا عميلاً لهم، فإذا تطاول وتحدى مصالحهم الحيوية فإن تفجير الأرض تحت أقدامه غير عسير. وحرب اليمن وحرب 67 ليستا أكثر من فخاخ منصوبة تفجرت تحت أقدام الذين يستخفون بإمكانات الأعداء وشراستهم".

كلمات مفتاحية