كيف انعكست الاحتجاجات في إيران على سياستها الخارجية؟

2022.11.02 | 06:51 دمشق

كيف انعكست الاحتجاجات في إيران على سياستها الخارجية؟
+A
حجم الخط
-A

يمكن لحظ جملة مؤشرات برزت في الآونة الأخيرة، تفيد بأن السياسة الخارجية الإيرانية تتجه نحو التهدئة في معظم الملفات ومناطق النفوذ الخاصة بها، باستثناء اليمن، وذلك مع تواصل الاحتجاجات الشعبية في الداخل، واتساع نطاقها الجغرافي والديمغرافي، بالتزامن مع عدم حسم ملف خلافة المرشد، في وقتٍ تتبدى فيه تباينات في المواقف حيال كيفية معالجة الاحتجاجات الراهنة، من داخل النخبة الحاكمة في طهران، وإن بقي المعلن من هذه التباينات، محدوداً.

ففي العراق، وبعد عامٍ من الشلل المؤسساتي والصراع السياسي الذي اتخذ منحنى دامياً في الصيف الفائت.. وخلال أيام فقط، انتُخب رئيس للجمهورية، كلّف بدوره رئيساً للوزراء، ونالت حكومة هذا الأخير الثقة من البرلمان، في سلاسة وسرعة غير معتادة في الحياة السياسية ببغداد. وكان لافتاً أن القوى الموالية لطهران، التي تُحكم سيطرتها على البرلمان -بعد انسحاب كتلة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر منه- انتخبت رئيساً "كردياً" محسوباً على الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل. وهو الفصيل الكردي الذي يحكم إقليم "كردستان العراق"، والذي يُعد مقرّباً من تركيا. وكان ذلك على حساب الرئيس العراقي السابق، برهم صالح، الذي كان يُوصف حين انتخابه عام 2018، بأنه "رجل إيران"، وهو المحسوب على الاتحاد الوطني الكردي في السليمانية، الذي يُعد بدوره، مقرّباً من طهران. وهو ما يؤشر إلى رغبة إيران في التقرّب من حزب مسعود بارزاني، الذي يدير مناطق يعيش فيها أكراد إيرانيون، وتقيم فيها جماعات معارضة كردية إيرانية، سبق أن اتهمتها طهران بالوقوف وراء تصاعد الاحتجاجات على وفاة الشابة مهسا أميني، التي كانت قد تفاقمت بدايةً في المدن "الكردية" في شمال غربي إيران المحاذي لـ "إقليم كردستان العراق"، قبل أن تمتد إلى باقي المدن الإيرانية.

هدف هذه "السلاسة" في توحيد الصفوف، هو مواجهة خطر انفجار "الشارع الشيعي" مجدداً، ضد الموالين لإيران، على وقع تفاقم الاحتجاجات في الداخل الإيراني

وكما أشرنا، كان من اللافت سرعة الاتفاق على حصص القوى السياسية المشكلة لحكومة محمد شياع السوداني. وعادةً ما يستغرق تشكيل الحكومات في بغداد، أشهراً من المفاوضات على الحصص والمناصب. وتسيطر القوى الموالية لإيران على معظم المناصب المهمة في الحكومة الجديدة، لكنها نحّت جانباً جميع خلافاتها البينية المتعلقة بالحصص والمكاسب، لصالح الخروج بحكومة موحدة، يبدو جلياً أن الهدف منها تجنب حصول احتجاجات شعبية ضخمة في الوسط الشيعي العراقي، بدفعٍ من مقتدى الصدر، صاحب النفوذ الكبير في هذا الوسط، والذي خرج من العملية السياسية تماماً، بعد أن عرقلت طهران محاولاته لتشكيل حكومة يحظى فيها باليد العليا، وذلك على مدار العام الجاري. وما يؤكد ذلك، هو تركيز خطاب القوى الموالية لإيران الممثلة في "الإطار التنسيقي"، عقب تشكيل الحكومة، على شعار "استعادة هيبة الدولة"، ما يعني أن هدف هذه "السلاسة" في توحيد الصفوف، هو مواجهة خطر انفجار "الشارع الشيعي" مجدداً، ضد الموالين لإيران، على وقع تفاقم الاحتجاجات في الداخل الإيراني.

وبالانتقال إلى لبنان، شهدت البلاد في شهر تشرين الأول/أكتوبر، انفراجةً سياسية أيضاً. إذ وُقّع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بعد أن أبدى حزب الله مرونة مفاجئة، تنازل فيها عن الخط 29، الذي كان مصرّاً سابقاً على التمسك به. انقلاب موقف حزب الله من التشدد والتلويح بالاشتباك المسلح مع إسرائيل قبل أشهر فقط، إلى المرونة والحديث عن الوقوف وراء "الدولة اللبنانية"، أدى إلى إنجاز اتفاقٍ يخدم المصالح الإسرائيلية بصورة كبيرة، إذ إن استخراج الغاز من حقل كاريش بات متاحاً الآن للدولة العبرية. كما أن اتفاق الترسيم أشبه باعتراف ضمني من حزب الله بالكيان الإسرائيلي، وفق مبدأ الاعتراف بالحدود، اعتراف بالوجود.

فيما الجانب اللبناني، الذي يمسك حزب الله بزمامه عبر مؤسسات "الدولة"، قدّم تنازلاً في حقل كاريش، وتمسك بحقل قانا، الذي يتطلب استخراج الغاز منه وقتاً طويلاً، إذ إن التنقيب اللبناني لم يبدأ بعد، ناهيك عن الضرورات اللوجستية التي يفتقد إليها لبنان، والتي ستجعل من استخراجه للغاز، أمراً قد يتطلب سنوات. مما يعني أن ذريعة القبول بترسيم الحدود، بهدف الحصول على الغاز لدعم اقتصاد لبنان المنهار، ليست دقيقة. وما حدث، هو مرونة "إيرانية" حيال إسرائيل، في توقيتٍ أرادت فيه طهران التقرّب من واشنطن (الوسيط في مفاوضات الترسيم)، للحفاظ على الدعم الغربي للاحتجاجات الداخلية، عند مستوى "الدعم اللفظي المعنوي"، وعدم تجاوزه إلى أبعد من ذلك.

رغبة طهران في التهدئة مع الغرب، تظهر جلياً أيضاً في ملف المسيّرات الإيرانية التي تستخدمها روسيا في أوكرانيا. إذ تمسّك الخطاب الرسمي الإيراني بعدم علم طهران بأن موسكو تستخدم "طائراتها" في تلك الحرب. وقد أطلقوا وعداً باتخاذ موقف من الشريك الروسي في حال ثبت ذلك. ووصل الأمر إلى حد إجراء وزير الخارجية الإيراني، اتصالاً مع نظيره الأوكراني، ليؤكد نفي قيام بلاده بتزويد روسيا بطائرات مسيّرة بغاية استخدامها في الحرب بأوكرانيا، مؤكداً على رفض طهران ضم روسيا للمحافظات الأوكرانية الأربع، مؤخراً.

لكن المشهد يختلف في اليمن. فالسياسة الخارجية الإيرانية دفعت هناك نحو التصعيد، وأوعزت لميليشيا الحوثي الحليفة لها، برفض تمديد الهدنة، والتهديد باستهداف السعودية والإمارات. يأتي ذلك بالتزامن مع توتر العلاقات بين البلدين الخليجيين من جهة، وبين واشنطن من جهة ثانية، من جراء تخفيض إنتاج النفط في اجتماع مجموعة "أوبك+"، مطلع تشرين الأول/أكتوبر. وهكذا يبدو التصعيد "الإيراني" في اليمن، منسجماً إلى حدٍ ما، مع المصالح الأميركية.

كما حدث في الساحتين العراقية واللبنانية، فإن طهران ستقدم تنازلات لقوى إقليمية وداخلية، بهدف التهدئة، في الساحة السورية أيضاً

أما في سوريا، فلا يمكن قراءة أية مؤشرات لتغيّر في سياسة إيران حتى الآن. وذلك بسبب استقرار المشهد السياسي والأمني لصالح نظام الأسد الحليف لطهران، وعدم وجود تحديات مباشرة للنفوذ الإيراني، في الوقت الراهن. لكن يبقى السؤال مطروحاً: كيف ستتعامل طهران مع ظهور تحدٍ مستجدٍ لنفوذها في سوريا فيما تتفاقم الاحتجاجات في الداخل الإيراني؟ الجواب على الأرجح، أنه كما حدث في الساحتين العراقية واللبنانية، فإن طهران ستقدم تنازلات لقوى إقليمية وداخلية، بهدف التهدئة، في الساحة السورية أيضاً. إذ من المتوقع أن يستنفر النظام الحاكم في إيران كل موارده وإمكاناته البشرية والمادية، بهدف القضاء على الاحتجاجات، ومنع تحولها إلى تهديد وجودي جدّي له. لكن، حتى لو تمكن النظام الإيراني بالفعل، من إخماد تلك الاحتجاجات، فإن النخبة الحاكمة -ومع تكرار الاحتجاجات كل بضع سنوات وتفاقمها أكثر في كل مرة- باتت مضطرة لتوفير المزيد من الاهتمام للداخل. خاصة على الصعيد الاقتصادي. وكما في احتجاجات العام 2019، رفعت الاحتجاجات الراهنة شعارات تدين التدخل الإيراني في دول المنطقة، معتبرةً أن كلفته الاقتصادية تنعكس على معيشة الإيرانيين. وفي هذا الحيز بالذات، قد تكون حصيلة الاحتجاجات حتى لو أُخمدت، تراجعاً في الدعم الاقتصادي الإيراني للحلفاء والأذرع في المنطقة، الأمر الذي سينعكس بصورة خاصة، على نظام الأسد، الذي يعيش –إلى حدٍ كبير- بفضل المعونة الاقتصادية الإيرانية.