كيف أجرت حلب تسوية وضعها؟

2021.12.27 | 05:12 دمشق

thumbnail_sep_08_1979_althwrt.jpg
+A
حجم الخط
-A

لو لم يُعدم حسني عابو شاباً عام 1979 لكان قد تجاوز السبعين الآن بلحية خفيفة وجلابية بيضاء وسبحة للأذكار. ولو لم يكن القائد الأول لتنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» في حلب ربما كان اليوم يراوح بين التذمر من الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي عن مدينته وبين الفخر بالنتائج التي حققها أبناؤه وأحفاده. هذا، على الأقل، ما يظهر أن أسرته أرادته عندما تابعت حياتها واضعة إياه في رتق خفي من ذاكرتها وأجبرته على الاندمال.

ولد حسني عابو في حلب لعائلة تجارية متدينة تتحدر من بلدة الباب في ريفها. انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1965 عندما كان طالباً في الإعدادية. وقادته العلاقات داخل التنظيم إلى الشيخ مروان حديد الذي كان يعمل على استقطاب كتلة جهادية داخلية، فكان عابو أحد من تلقوا تدريباً عسكرياً عام 1969 في «قواعد الشيوخ»، وهي معسكر للإخوان المسلمين أقيم في الأردن، وانضوى وقتئذ تحت كنف حركة فتح الفلسطينية. وعندما أخذت «مجموعة مروان» بالتبلور، سراً، صار عابو زعيمها في حلب، الفرع الأبرز في الأهمية بعد مركزها التقليدي في حماة.

عندما أنهى حسني دراسته الجامعية في قسم التاريخ والتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية سلم مهامه لنائبه المتوفز عدنان عقلة. وعندما عاد كان النائب قد حاز شعبية بين القواعد القليلة أضاعت الفروق بين الاثنين. ولم تنتج عن ذلك مشكلة حتى عندما جاء عقلة لأميره بالعملية الشهيرة الأخطر في «مدرسة المدفعية»، والتي استهدفت طلاب ضباط علويين، والتي يقول عابو إنه لم يوافق عليها في البداية. وهي التي ستؤدي إلى التشديد في ملاحقته والقبض عليه.

سنوات طويلة مرت على الصبيين وهما يتمنيان ألا ينتبه أحد إلى اسم أبيهما الذي كان شهيراً وإشكالياً في البداية ثم أخذت تمحوه الأيام

قبلها كان عابو قد اقترن بابنة الشيخ طاهر خير الله، الداعم الديني الأبرز للطليعة في حلب. ورحل تاركاً لها ثلاثة أطفال، بنتاً سمّاها على اسم والدته، وصبياً حمّله اسماً مركباً يبدأ بـ«سيد»، نسبة إلى سيد قطب، ويكتمل بـ«نافع»، نسبة إلى مدرس التربية الإسلامية الحموي نافع علواني، الذي أدخله الجماعة وعرّفه على مروان حديد. أما آخر أبنائه فهو محمد أنس.

سنوات طويلة مرت على الصبيين وهما يتمنيان ألا ينتبه أحد إلى اسم أبيهما الذي كان شهيراً وإشكالياً في البداية ثم أخذت تمحوه الأيام. وفي البيت كان على الأرملة الشابة أن تحتل دور الأب والأم، دون أن تضطر إلى العمل بسبب غنى أهل زوجها الذين ظلت في كنفهم، وأن تحذر من أن يسلك أي من ولديها طريق أبيه. فبعد أن هاجرت عائلتها قضت ليالي كثيرة وحيدة مع أشباح من قُتلوا أو طوردوا. وكانت مصرة ألا يتكرر ذلك مهما كلفها الأمر من قسوة وحياد واستسلام ولوم وندم، ونجحت في ذلك.

في 2011 كانت العائلة في إحدى ذرا نجاحها المتصاعد. كان الابنان، وقد أصبحا رجلين الآن، قد اهتديا إلى مهنة استيراد التجهيزات الطبية وتسويقها، وحصلا على وكالات محلية وإقليمية لشركات أجنبية في هذا المجال، ونجحا في تسويق بضاعتهما للقطاع الخاص والفوز بمناقصات مع القطاع العام، مع ما يستلزمه ذلك من علاقات وحصص، من دون توسع. كان الأكبر، سيد نافع، مديراً عاماً في مقر شركة سناميد في برج دمشق في مركز العاصمة، يضبط المؤسسة وينظمها. في حين ظل الأصغر، أنس، في مكتب الجميلية بحلب، مديراً تنفيذياً نشطاً وفعالاً ولماحاً. وفي المدينتين سكن الاثنان في حيين راقيين، وركبا أفخم السيارات، وأرسلا أولادهما إلى مدارس، ثم جامعات، خاصة.

ولكن ما الذي جرى لهؤلاء الشبان الحمقى الذين أخذوا يتدفقون إلى الشوارع؟ ألم يكفِنا ما ذقنا من أحداث الثمانينيات؟ هل يظنون حقاً أن مظاهرات ساذجة ستسقط النظام المدجج بالأسلحة؟ ألا يكفي أن البلاد انفتحت اقتصادياً والأعمال تسير؟ ما لنا وللسلطة؟ ألم نختبر وحشيتها بما يكفي أم أن علينا أن نعيد الكرّة كلما نبت للمجتمع ريش وخفت قبضة الأجهزة الأمنية؟ لماذا نعطيهم ذريعة جديدة لقمعنا؟ وهل يتوقع أحد أن نحصد سوى الفوضى والخراب؟

كان هذا خطاب مدينة حلب في مواجهة الثورة على العموم. وفي قلبه كانت عائلة عابو التي لم تبدِ أي تعاطف مع الاحتجاجات، بل شارك بعض أفراد جيلها اليافع الثالث في مسيرات مؤيدة لبشار الأسد.

قضى حسني عابو شهوره الأخيرة في زنزانة منفردة في إدارة المخابرات العامة بكفر سوسة بدمشق. وكان معتقلو الإخوان والطليعة في مهجع مجاور حين سمعوا أن التلفزيون سيبث لقاء أجري معه، فتجمعوا في الموعد، مساء 7 أيلول 1979، بجوار المذياع ليسمعوا «أبا سيد». وإذ به يعترف بعمليات التنظيم بالتفاصيل، ويتبرأ منها، مما أثار غضبهم بشدة. كان الأمر جديداً عليهم ولم يكونوا يعرفون كلفة «المقابلة»، حتى استطاع أحدهم لومه خلسة عبر كوة الزنزانة فأخبره بالتعذيب الذي تعرض له في أثناء إجراء المقابلة وعن إعادة تصويرها ثلاث مرات وإخضاعها لعملية مونتاج حتى جاءت أخيراً بالشكل الذي يرضي السلطة.

بعد أشهر ليست طويلة على إجراء المقابلة عُرض على المحكمة الميدانية، برئاسة اللواء حسن قعقع، التي قضت بإعدامه رمياً بالرصاص، وهو ما نُفّذ في اليوم نفسه في سجن القلعة

على التلفزيون شكر عابو الأجهزة الأمنية على المعاملة الحسنة، ونفى تعرضه لأي نوع من أنواع التعذيب. وقبل ذلك أقر بأن أعمال تنظيم الطليعة ستؤدي «إلى تفتت الجبهة الداخلية ومحتمل أن تؤدي إلى قيام حرب طائفية داخلية كما حدث في لبنان ونتيجتها طبعاً ستكون إضعاف القطر... والفائدة من إضعافها لأعداء البلاد. وهذه الأعمال لن تخدم القضية الداخلية وإنما تخدم أعداء البلاد الذين يتربصون بنا الدوائر».

ورغم ذلك لم ينفعه إظهار التوبة. فبعد أشهر ليست طويلة على إجراء المقابلة عُرض على المحكمة الميدانية، برئاسة اللواء حسن قعقع، التي قضت بإعدامه رمياً بالرصاص، وهو ما نُفّذ في اليوم نفسه في سجن القلعة.

أما ابنه، الذي تجرع الدرس مراراً ومبكراً، فقد اتخذ الطريق الأقصر حين أجرت معه إحدى وسائل الإعلام المحلية مقابلة على هامش معرض للرعاية الطبية، وقدّمته باسم «نافع» فقط، فزاد في إظهار الولاء على زملائه المتحدثين وأكد أن مشاركة سناميد في المعرض «جاءت لتثبت للعالم بأن الشعب السوري صامد بكافة فعالياته العلمية والثقافية والطبية، وأنه قادر بصمود وتضحيات جيشه العربي السوري أن يستمر بالعطاء وتقديم كل ما يستطيع للوطن».