كي لا تتحول ذكرى الثورة إلى حالة طقوسية

2023.03.25 | 06:13 دمشق

كي لا تتحول ذكرى الثورة إلى حالة طقوسية
+A
حجم الخط
-A

اتسم شهر آذار لدى السوريين، ومنذ عقود خلت، بطابع طقوسي تحوّلَ بفعل التعاقب الزمني إلى حالة نمطية غالباً ما تتجسّد في سلوك الناس وردود أفعالهم. فمنذ ستين عاماً تحرص السلطات البعثية المتعاقبة على استيقاف الزمن يوم الثامن من آذار لتوقّر في أذهان السوريين أن هذا اليوم هو منعطف شديد الأهمية في حياة البلاد، ولئن لم تفلح السلطتان اللتان حكمتا البلاد من عام 1963 وحتى 1970 في تحويل مشاعر ومواقف المواطنين إلى أنماط سلوكية تجد تجلياتها في اللاوعي الجمعي للناس، وذلك بحكم الفترة الزمنية التي لم تكن كافية لهذا التحوّل، فإن الحقبة البعثية الثالثة المتمثلة بسلطة الأسد (الأب والابن معاً) والتي بات عمرها في حكم البلاد ثلاثة وخمسين عاماً، تُعدّ بحق هي الأجدر على إفراغ اللحظة الزمنية من محتواها الطبيعي وإعادة صياغتها من جديد، ومن ثم تحويلها إلى طقوس داعمة لكينونتها واستمرارها في البقاء.

هكذا بات يوم الثامن من آذار لا تحمل تجلياته سوى الحضور المُركّز للسلطة المتمثلة بسطوة الحاكم، بعيداً عن أي جانب سياسي أو فكري آخر

يمكن استجلاء هذه الظاهرة من خلال الاحتفالات التي ترعاها السلطة، والتي يراد منها التعبير عن الولاء والإشادة بفرادة الحاكم أولاً، وليس التعبير عن الفحوى الحقيقي للمناسبة - بعيداً عن ماهيّة هذا الفحوى - ليحلّ محله المُنجز الثوري العظيم للقائد الفرد الذي بات يختزل بشخصه جميع قيم الوطنية والتميّز والفرادة. لعل ما بات يعرفه معظم السوريين، ومنذ عقود سالفة، أن التحضير لاحتفالات شهر آذار يبدأ قبل شهر أو اثنين، وخاصة في الدوائر والمؤسسات الحكومية، من جهة توزيع الأدوار للمتحدثين وتحضير اللافتات التي سترفع وطبيعة ما سيُكتب عليها من عبارات، وكذلك طباعة عدد كاف من صور الرئيس التي يجب أن تغرق بها الشوارع والجدران، ولكن مع مرور الزمن بات التحضير لهذه المناسبة - هو الآخر - يدخل في حيّز التنميط، إذ ما إن ينتهي شهر آذار وتنتهي الاحتفالات حتى تُطوى اللافتات والأعلام والصور، وتُحفظ في مكان ما، ليُعاد إخراجها في العام المقبل، ذلك أن ما تتضمنه من شعارات وعبارات تخص المناسبة هي صالحة لكل زمان، وربما انسحب ذلك على الكلمات والخطابات أيضاً، باعتبار أن ما سيقال أثناء هذه المناسبة يكاد يكون معلوماً من قبل الجميع سلفاً. وهكذا بات يوم الثامن من آذار لا تحمل تجلياته سوى الحضور المُركّز للسلطة المتمثلة بسطوة الحاكم، بعيداً عن أي جانب سياسي أو فكري آخر.

في آذار من العام 2011 انطلقت الثورة السورية، ومنذ ذلك الحين يحرص جمهور الثورة من السوريين سواء في داخل البلاد أو خارجها على إحياء ذكرى الثورة من خلال فعاليات متنوعة (سياسية وفنية - ندوات - محاضرات - لقاءات جماهيرية) وهذا سلوك في غاية المشروعية، بل ربما رآه البعض أمراً ينطوي على دلالات أخلاقية قبل أي اعتبارات سياسية أخرى، ولعل من أبرز تلك الدلالات الأخلاقية هي استحضار ذكرى الشهداء والمعتقلين والمفقودين والوقوف عند التضحيات الكبرى التي قدمها السوريون على مذبح الحرية والكرامة، وكذلك استلهام الأمل بالمستقبل حتى تبقى جذوة الثورة حيةً في النفوس والأذهان، لكن يرى آخرون أن حَصْر الاحتفاء بذكرى الثورة ضمن هذه المحددات والبواعث المذكورة ربما أدى مع مرور الزمن إلى تحوّلها نحو حالة طقوسية، بحيث يصبح حضور ذكرى الثورة مختزلاً باستدعاء الذكريات وتكرار الشعارات وإحياء الصرخات الغاضبة والتعبير عن الرفض، مجرد الرفض، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن هذه "الحالة الطقوسية" حتى تكون فاعلة ومؤثرة ومحتفظة بمضامينها القيميّة ودلالاتها الرمزية، يجب أن توازيها حالة أخرى تتمثل بمراجعات فكرية وسياسية معمقة لسيرورة الثورة منذ انطلاقها، وكذلك وقفات متأنية حيال المفاصل الأساسية والأحداث التي أدت إلى المآلات الراهنة، فضلاً عن إعادة النظر والمراجعة للسياسات الإقليمية والتبدلات في المواقف الدولية حيال القضية السورية، وهذا بالطبع لا يمكن تجسيده من خلال جلسات ولقاءات وندوات افتراضية ارتجالية قوامها إعادة سرديات قديمة واجترار خطابات إنشائية وتوزيع التهم والركون إلى نقاشات هي أقرب ما تكون إلى المهاترات العقيمة، بل يمكن التأكيد على أن شيوع حالة كهذه لهو دلالة واضحة على تفكير مهزوم ووعي بائس لا يقوى على مواجهة الواقع بغية السعي إلى تغييره.

ظلت معظم النخب تقارب القضية السورية بأدواتها الذهنية التقليدية، في حين أن الثورة هي عمل إبداعي متجدد على كل المستويات

كما يرى كثيرون أن استفحال حالة القنوط والإحباط في الأوساط العامة للثورة إنما مبعثها الأساسي هو العطالة الفكرية لدى معظم النخب السورية التي آثرت الركون والتسليم بمجمل المقولات والأفكار والممارسات التي أنتجتها مرحلة (2011 - 2012 - 2013)، ولم تستطع مغادرتها لعدم قدرتها على استلهام الكشوفات الفكرية والسياسية والثقافية التي لاحت إرهاصاتها تزامناً مع ثورات الربيع العربي، إذ ظلت معظم النخب تقارب القضية السورية بأدواتها الذهنية التقليدية، في حين أن الثورة هي عمل إبداعي متجدد على كل المستويات، بل غالباً ما يكون الوعي الثوري مهجوساً على الدوام بإيجاد وسائل نضالية جديدة من شانها أن تعيد الحياة إلى فكرة الثورة وتجلياتها في الواقع المعاش. واقع الحال يشير إلى أن قضية السوريين، وخلال اثنتي عشرة سنة، قد طرأت عليها تحولات كبيرة ومفصلية، سواء على المستوى المحلي السوري أو على المستوى الدولي الخارجي، ولئن كانت هذه التحولات حاضرة بقوة في أحاديث السوريين وهم يستحضرون ذكرى الثورة، فإن المواجهة الحقيقية لتلك التبدلات والملمّات توجب عليهم المزيد من التفكير والعمل لتجنّب الوقوع في الحالة الطقوسية والنمطية لذكرى الثورة.