كورونا.. حين أتانا حديثُ الغاشية...!

2020.03.17 | 23:01 دمشق

https_s3-ap-northeast-1.amazonaws.com_psh-ex-ftnikkei-3937bb4_images_1_8_1_5_24595181-1-eng-gb_blue-corona-hospital-gear.jpg
+A
حجم الخط
-A

نخافُ منه أن يصيبَنا؟ نعم.. بكل تأكيد! ولسنا على يقينٍ من طبيعة خوفنا، أكثر من أنَّ حُبَّ الحياة ورفض الموت، هو جزءٌ من فطرتنا الطبيعية. ولكن بكل تأكيد أيضاً، لسنا مرعوبين منه ـ وأتحدث كسوريين ـ ولا وجلين مثل بقية إخوتنا في الإنسانية، في شتى بقاع العالم. ربما لأننا اعتدنا على طرائق من الموت الأشد قسوة وفظاعة، ألفيناه شيئاً خفيفاً. ضرباً من الموت الرحيم الذي يُفَكَّرُ فيه أحايينَ، في شيء من الذكاء والتخطيط. ولكن ليس هذا أميزَ ما يميز كورونا.

يُخَيَّلُ إلينا أحياناً، كسوريين، أن كورونا أشبه بممثل وحيد على المسرح. ممثلٍ أُنيطت به كلُّ أدوار الممثلين الآخرين؛ ذكوراً وإناثاً. أخياراً وأشراراً. ممثلٍ نتوهم، مع ما يرافق ذلك من متعة غير مستبانة، أنه يلعب دور الفارس البطل، منقذ هذا العالم ومدمر أشراره. وأحياناً يلعب دور الأشرار الذين يفتكون بالأخيار في المسرحية. هو "أنطونيو" الشهم، في مسرحية (تاجر البندقية)، وهو، في الوقت نفسه، "شايلوك" المرابي الحقود، ضِلِّيلُ (البندقية)، وأمثولة هذا العالم في الشر.

ولا خفاءَ في أنه لبّى الجزءَ الأهم من رغبات ملايين بعض البشر، حيث كشف عن "بعض" الزيف المتقن، الذي تغطى به هذا العالم. والذي اشْتُغِلَ عليه لأحقاب طويلة، كيما يضعُ كلَّ صاحب حيلة في مكانه الطبيعي، وبما يستحق من جدارة. الأقوياء والأغنياء في الصفوف الأولى. والفقراء والمهمشين والمعدمين، ومن لا حيلة لديهم ولا وسيلة، في الصفوف الخلفية. وأحياناً خارج الصفوف، وبعيداً عن المكانات والأمكنة والتراتبيات.

فجأة وجد العالم نفسه عارياً، بلا حماية مضمونة. وهو الذي تدثّر طويلاً، وتحصّنَ بكل ما ظنّ أنه كافٍ ومفيدٌ ومقتدرٌ. لقد فتق كورونا فتقاً، فأجبرنا على الالتفات نحو الجانب الآخر. الجانب المظلم وغير المشعور به من ذواتنا، ومن النفس العميقة اللاواعية. ولكن لماذا؟ فليس الموت حادثاً طارئاً في حياة البشر. والتاريخ يؤكد لنا أنه ما انقطع يوماً عن مَدِّنا بكل أسباب الموت والفجائع، وبأبشع ـ بما لا يقاس من حيث النتائج ـ من النتائج المتواضعة (حتى اليوم)، لِما اجترحه كورونا، وما توسل وتوصل إليه، من حصائد موتٍ حتى اللحظة. ففيمَ كل هذا الفزع والرعب المُعْدِم منه ومن قدومه المفاجئ؟

هل هناك موتٌ دون موتٍ آخر؟ يبدو أن الأمر كذلك. فالموت في الحروب التي تحصد عشرات الملايين، والموت الذي يفتك بالناس في نهايات الحروب الأهلية والبينية. وموت البيئات الفقيرة في هذا العالم جرَّاء الجوع، والموت بسبب كثرة الأمراض المنتشرة الفتاكة، التي لا حصر لها ولا عدّ، والموت بسبب الحوادث والحرائق والانتحارات، مما لا يمكن إحصاؤه؛ كل ذلك الموت، كان ـ وما يزال ـ كثيراً منذ بدايات التاريخ الموغلة، وفجر انبثاقه الأول. وكما كان طرياً طعمُهُ في الشفاه وعلى الألسنة، منذ القرون القديمة والوسطى. فلماذا إذن لم نبتئس يوماً بالقدْر الذي أبأسنا به كورونا وأتعسنا؟

الواقع أن السبب بسيط، والتفسير أسهل؛ فكورونا هو الموت "غير المُتَحكَّم به". وهو يختلف جملة وتفصيلاً، من حيث الاستعداد لتقبله ونمطية توقعه وانتظاره، عن الموت الآخر: الموت "المتحكم به". الثاني تقف وراءه جهة وإرادة، أما الأول ـ كورونا ـ فيقف وراءه العدمُ الذي لا يُستطاع إزاءه حيلة، وشلل الإرادة في أشد حالات إعيائها وعجزها، وفقدانها القدرة. ولأول مرة تجد أهل الثروات الضخمة، ليس بوسعهم أن يدفعوا "بوليصة تأمين" على الحياة، ولا الهرب إلى بر الأمان، ولا شراء النجاة بالمال.

ولأول مرة أيضاً، يتساوى شيخٌ، ممن يموتون كل يوم، في مخيمات اللجوء السوري، دون أن يعرفَهم أحدٌ، أو يشعر بموتهم أحدٌ، مع أعضاء برلمانات، ورؤساء جمهوريات، وملوك وقادة مدججين بالحراسات. كأن كورونا أراد أن يُلْمِعَ إلماعة خفية، إلى أنه بات بوسعه أن يحقق جزئية من عدالة تفتقدها الإنسانية حتى في أحلامها، أو أحلام يقظتها.

ربما تنتهي جميع نتائج هذه الجائحة التي تكررت مراراً في أزمنة مضت، بشيءٍ ضئيلِ الاعتبار. أقل، على سبيل المثال، من نتائج تدمير برجي التجارة العالمي في نيويورك، وما رتبت من خسائر بشرية. ثم ما رتبت، من كوارث حروب استندت إليها، ونشبت بدلالاتها. وربما تكون نتائج كورونا في المحصلة الأخيرة، أقل من نتائج حوادث القطارات السنوية، التي تقع في بلد مثل مصر. وذلك في حسابات خسائر الأنفس البشرية، في مآلات الأمور أو فذلكاتها. أقول ربما؛ ومن جهة أخرى، قد تنتهي النتائج، لا قدَّر الله، إلى أكثر مما يُتوقع ويُظن. فقد تكون مُدمرة وكارثية، بأكثر مما تحصد حروب كبرى من حصائد أرواح البشر.

ولكن في كلا الاحتمالين، فإن كورونا قد فتق فتقاً وأحدث شيئاً جديداً في حياة البشر جميعاً. واجترح لفتة غير مسبوقة وغير معهودة، إلى الحياة ـ كما ألفناها على ظهر هذا الكوكب ـ وهي أن الحياة، رغم ثقلها في الأنفس، "خفيفة جداً"، في معايرات هذا الكون المبهم الشديد الغموض. وأن ليس كلُّ "بيضاءَ شحمة"، ولا كلُّ "حمراءَ لحمة". وليس المالُ والثروات والقوة، هي وحدها من يقرر مسيرة الحياة أخيراً، وخطة الكون وفصل القول، أو قول الفصل في النتائج التي قد ننتهي إليها ذات يوم.

نتمنى ألا يُحدث كورونا شيئاً فريّاً. وألا يستحيل إلى درسٍ من دروس الاسترجاع. أو وقفة تأمل ومراجعة جادة ومُنَغِّصة، (وإن كان سقف الأمل منخفضاً، لكنه ليس معدوماً). مثلما نتمنى أن يتأمل الإنسان ويتبصر مصيره على هذه الأرض. وأن يراجع قدراته جيداً. متحللاً من نزعة الأنانية والتوحش، ومن غريزة العنصرية والتفوق، ووهم القوة والتحكم والتملك والنفوذ، وبسطة الخلود الذي يرسمه الدم ويُمَوِّله المال العالمي. ونحن نحلم بعالم لا يتشفى فيه المقهورون والمستضعفون في هذه الأرض، بإصابة أقويائه والمقتدرين فيه بجائحة مرضية.

من الصواب أن نزعم كذلك، بأن الأمل ضعيف، ولكن، في المقابل، من المُشجِّع والجائز أن نثق بالإنسان، وبقدراته الكامنة والخفية، على أن يخطط لمستقبله بأفضل كثيراً، وبما لا يقاس، في عوالم مستقبله. حين يحلُّ حديث السلام والأمان والعافية، محل حديث الخوف من المجهول.. والغاشية.     

كلمات مفتاحية