كورونا الأسد والمقاومة الشعبية

2020.03.14 | 23:18 دمشق

43302997_303.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل كان توفيق الحكيم يتوقع- عندما كتب مسرحيته "نهر الجنون"- أن يأتي يوم، يكون الواقع المعاش أكثر غرابة مما فيها؛ فقد كان نهر مسرحيته ماءً، وكان الناس يشربون من مائه، أما اليوم فقد تحول نهر الماء إلى نهر دم، وقد صارت الناس تغرق فيه.

لم يتخيل أحد- عندما تقرر إلحاق سوريا باسم عائلة مغتصبها، حافظ الأسد، فأصبح اسمها "سوريا الأسد"- حجم الكارثة التي بدأ تأسيسها، يومها كان الجميع يظن أنها تسمية بلا معنى، وأن لا أهمية لها، وأن الزمن وحده كفيل بأن ينهي هذه المسرحية التافهة. 

وها إن عقوداً مضت، وكل ما في سوريا ملك لعائلة الأسد. حسناً، إذاً لماذا لا تكون حصة سوريا من فايروس "كورونا" ملكاً حصرياً لهذه العائلة؟ وعلى هذا، وحرصاً على تسلسل النتائج من مقدماتها الصحيحة، لماذا لا يحمل هذا الفايروس اسم هذه العائلة، وكل منهما أكثر قرباً من شرف قرينه الرفيع، وأكثر جدارة له، مادام كل منهما شديد التطابق مع آخره في الجوهر والمعنى، وفي المبنى والأثر؛ فيكون الاسم: كورونا الأسد، أو عائلة كورونا؟

وبالتتابع، وفي نفس السياق: أليس الأجدر للمعارضة، التي تجد أن من الضروري والوطني والثوري أن تنخرط في انتخابات مجلس الشعب القادمة التي ستجرى في سوريا، أن تحمل هي أيضاً اسم هذه العائلة؛ فتكون قوى الأسد، أو قوى كورونا، للمعارضة الداخلية (من المهم جداً توضيح أنها معارضة داخلية، تمييزاً لها عن قوى المعارضة الخارجية العميلة والخائنة وفق رؤية منظرها العتيد)، لا سيما أنها معارضة توشك أن تقول قول شبيحة النظام: (ليست المشكلة في الرئيس، إنها في المؤامرة الكونية عليه) لكن، لأنها معارضة من طراز ماركسي خاص، ولأنها تستمد لغتها وحكمتها من مقولات الديالكتيك والمادية التاريخية؛ فإنها تقولها بلغة أقل فجاجة.

إنها السوريالية السورية التي تبتكر كل يوم فصلاً جديداً من عبثيتها، فيفيض نهر الجنون، أو نهر الحقد؛ ليصبح الحديث عما يجري هو الجنون بعينه.

لنحاول أن نقول الأمر بقول آخر، بعيداً عن غرابته وعبثيته وجنونه، إن استطعنا:

لقد أصبح واضحاً للجميع، كيف قررت سلطة الأمر الواقع أن تتعامل مع فايروس كورونا، وعبره مع الشعب السوري، حين اعتمدت منهجها الدائم في مثل هذه الحالات، وهو: منهج التجاهل وطمس الحقائق، مهما تكن نتائج هذا التجاهل وهذا الطمس.

 

هكذا قرر النظام - بكل راحة وأريحية- عدم الاعتراف بفايروس كورونا، وبجرة قلم من قلمها المعهود ألغت وجوده، وتركت لمن يفتك بهم هذا الفايروس أسبابها الأخرى.

ولأن المهزلة عادة تجر إلى مهزلة لا تقل عن سابقتها غرابة، فقد جاءت الدعوة التي أطلقها تيار التغيير السلمي للمشاركة في انتخابات مجلس الدمى، المسمى مجلس الشعب السوري، ولكي يعطي لسفاهته هذه وجهاً آخر؛ فقد أضاف إليها ما توهم أنه يجملها ويلبسها ثوب الوطنية، فأوضح: أن هذه المشاركة ستكون مقدمة لخلق مقاومة شعبية تأخذ على عاتقها تحرير سوريا من الاحتلالات. وبالتالي، عن أية مهزلة يمكن الحديث، عندما يريد أن يصبح بطل التحرير من طالب مراراً بقدوم جيوش الاحتلال؟

 

إن السوريين لا يفتقدون مفارقات كثيرة لا تقل غرابة عن قرار عدم الاعتراف ب "كورونا"، ولا تقل سخفاً عن بطولة التحرير المتوهمة عند تيار التغيير السلمي؛ فعلى مساحة هذا البلد المنكوب تتوالى الأحداث الصادمة، فهناك سوريون ينقسمون، ويختلفون، حول مناصرة أي احتلال من احتلالات بلدهم، وهناك سوريون ينقسمون، ويختلفون، حول عدد الكيلومترات التي نص عليها اتفاق سوتشي، ومتى يكون هذا العدد انتصاراً، ومتى يكون هزيمة.

 

قد تكون نعمة الجغرافيا التي أحالها الطغاة إلى نقمة، كأن سوريا لا يكفيها أربعة عقود من حكم قد جفف كل ما فيها، ليعقبها عقد خامس من القتل والتدمير والتهجير واستقدام الجيوش والمرتزقة، ثم تكتمل حلقات الفجيعة بأن تتصارع على أرضها ثلاث دول مأزومة، تاريخها سلسلة من الحروب فيما بينها، ترى أن خلاصها من أزمتها سيكون على هذه الجغرافية المسماة سوريا.

ولقد قالت تلك الأم السورية التي كانت تقف أمام تابوت ابنها الضابط القتيل في حرب الجنون، بعد أن تقدم إليها الضابط الذي رافق التابوت؛ لكي يسلمها العلم: إنها مستعدة أن تذهب هي إلى ساحة المعركة؛ لكي تقاتل حتى بأسنانها؛ ولقد تعالت الزغاريد، ودمعت أعين الرجال من شدة التأثر، وانتفخ صدر الضابط بعد أن شعر بالفخر فجأة. أية مسرحية عبثية هذه! وأي فاجعة يمكنها أن تحتوي هذا الحقد الذي يتغول، ويبتلع كل شيء؟

حتى اليوم لا يزال القسم الأعظم من السوريين يدير ظهره للحقائق التي كشفت عنها تسع سنوات المقتلة، ولا يزال القسم الأعظم من السوريين على عناده في قراءة الحالة التي وصلنا إليها بدلالات لم يعد بطلانها خافياً على أحد، فلا المؤامرة قادرة على تفسير ما جرى ويجري، ولا الطوائف، ولا السماوات. وحده الدم المراق، والقهر الذي ينام السوريون كلهم تحت وطأته، يمكنه أن يقرأ هذه الحال كما ينبغي؛ هذا إذا لم يعمنا نداء الحقد.

لم يعد لهذا الجنون حد، فقد استفحل الحقد إلى الحد الذي بات فيه مجرد الحديث عن الحكمة والتعقل خيانة، ومجرد لفت النظر إلى سبب هذا البلاء وأسّه كفيل بأن يحيل الحاضرين إلى كتلة من غضب؛ يمكنها تفتيت جسد هذا الذي يقول ما لا يريدون سماعه. لقد أصبحنا حشوداً متعطشة للقتل.

ولكي تكتمل فصول الفاجعة، فيغدو الخلاص أقرب ما يكون إلى الاستحالة؛ تتمدد اللوحة لتكشف عن عالم يفيض بالوحشية، عالم لا يتردد قادة دوله الكبرى عن نزع قناع القيم والحقوق عن وجوههم معلنين: أن صياغة جديدة للنهب والتوحش ستكرس على هذه الأرض مهما كان عدد ضحاياها.

هل يمكن إنقاذ شعب أعزل، ومقسم، ومستباح؟ وهل يمكن إنقاذ شعب فاض نهر الدم فيه؛ ففاض نهر حقده؟ وهل يمكن إنقاذ شعب يتزعمه الخونة وتجار الدم؟ وهل يمكن إنقاذ شعب يحاصره الموت من ست جهات الأرض؟

هذه أسئلة الكارثة المفجوعة التي تستحق أن نقف جميعاً في حضرتها عراة إلا من سوريتنا.