"كهرباء الأبقار" لسورية الغارقة في الظلام.. الفارق بين الدولة والعصابة

2021.12.05 | 06:01 دمشق

capture_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لو دخل أي واحد منا إلى برنامج غوغل إيرث Google Earth وقصد سوريا ليلاً لوجدها بقعة مظلمة ما عدا العاصمة دمشق وبعض مراكز المدن المضاءة بشكل باهت، ولو تابعنا التجوال باتجاه حدودها الشمالية تركيا أو الجنوبية فلسطين والأردن لوجدنا مدنها تضيء كما هو المعتاد.

فقط سوريا الغارقة في الظلام صارت تعرف ليلاً على أنها المساحة الخالية من الضوء، أنها البلاد المعتمة.

كم هي مفجعة هذه الحقيقة، هي سوريا التي عرفت الكهرباء قبل بلاد كثيرة في الشرق الأوسط، وكانت تغذي دولتين مجاورتين بالكهرباء حتى وقت قريب..

لا نبالغ إذا قلنا أن ضرورة الكهرباء في حياة الإنسان المعاصر لا تقل عن ضرورة الماء، أما بالنسبة للصناعة والتجارة والزراعة المحمية والتعليم والنقل فالكهرباء هي بأهمية الأكسجين، فلا مجتمع حي ولا دولة من دون كهرباء، فغياب الكهرباء يعني غياب الدولة، وحضور الظلام يعني سيادة العطالة والخوف والفوضى..

وإذا كان من دور فعلي وموضوعي تقوم به الدولة فهو حماية الاستقرار وتلبية الحاجات ورعاية النمو، فلم تُعرف الدولة إلا بعد نمو القرى وتحولها إلى مدن انتخبت منها أفرادا مهمتهم السهر على أمنها وتلبية متطلباتها وإدارة عملية تحقيق حاجات السكان، ولاسيما العامة منها، كشقّ الطرق وحماية السكان وحماية الحقول والمنشآت وحماية دورة الإنتاج والاستهلاك.

نعم إن البنية التحتية التي لا يمكن لأي مدينة أو بلدة كبيرة القيام والبقاء دونها هي الشرط الأساسي والأول لوجود الدولة .

ألم تصعد الدولة الحديثة رويدا رويدا مع انتشار شبكات الماء والصرف الصحي في المدن؟ ومن ثم مع شبكة الكهرباء والهاتف؟ أن لا تتوفر الكهرباء أو الماء في مدينة ما يعني أن الدولة بمعناها الحديث غير موجودة.

كان لينين الزعيم الشيوعي الروسي يرى أن إنارة الريف الروسي هي المهمة الأولى للدولة السوفيتية، فلا دولة ولا سلطة دون كهرباء ولا يمكن الحديث عن مجتمع بشري حديث دون وجود فائض من الكهرباء.

اليوم في سوريا تفرض حكومة العصابة سلطتها عن طريق منع الكهرباء وربما قريبا منع الماء، وربما منع وسائل المواصلات الجماعية وفتح خطوط بديلة لتأمين الكهرباء بشكل فردي عن طريق منح رخص لأشخاص مقربين لإنشاء وكالات لبيع المولدات الكهربائية ووكالات لبيع شبكات الطاقة الشمسية بمبالغ خيالية لو قارناها مع مدخول الموظف السوري.

تعرف العصابة الحاكمة أن من يستطيع شراء هذه التجهيزات هم قلة من السوريين، وفي سبيل ذلك أخذت بعض البنوك السورية تمنح قروضا خاصة لشراء ألواح الخلايا الشمسية، لكن أصغر شبكة ألواح منزلية تكلف مليوني ليرة سورية، في وقت يبلغ الحد الأقصى للراتب السنوي للموظف السوري ثمانمئة ألف ليرة، أي أن المواطن المقترض من البنك سيتحتم عليه طوال حياته وحياة أولاده دفع قسط البنك، لتوليد كهرباء تكفي لتشغيل أربع لمبات وتلفزيون ومروحتين.

تفتق عقل النظام عن حل آخر يناسب برأي من اقترحه المواطنين الذين يعيشون في الريف وهو يوفر إضافة للكهرباء، الروث والحليب؟؟

قرض لشراء بقرة لـ "توليد الكهرباء" عبر تخمير الروث.. نعم !!

هذا الحل يكشف عن رغبة دفينة عند النظام المتخلف بإعادة أهل الريف إلى القرون الوسطى أو إلى العصر الحجري أو إلى الزمن السابق على ولادة الجمهورية السورية. والحقيقة نحن لا نستغرب هذا الحل عن عباقرة العصابة الحاكمة فهو يأتي بالفعل ضمن السياق الذي ينحدر إليه هذا النظام العصابة، باتجاه الهاوية..

العصابة تفكك الدولة بتفكيك البنية التحتية

غياب الكهرباء عن مجتمع حديث هو عمل مقصود غايته تغييب المجتمع عن الحياة الفعلية وضمان استمرار جهله وعماه عن الحقيقة، فمعرفة الحقيقة العارية ستدفع المجتمع للانفجار في وجه العصابة أو العصابات الحاكمة، والسوريون كلهم شهدوا انقطاع الكهرباء عن مدنهم وقراهم تزامنا مع عرض برنامج تلفزيوني سياسي أو حتى مع عرض حلقة من مسلسل تتضمن قولا أو مشهدا ذا طابع سياسي مختلف للنهج العام للدولة.. فغياب الكهرباء يعني انعدام القدرة على مشاهدة التلفزيون أو الدخول إلى الإنترنت، وعن متابعة ما تنشره المحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية حول الكوارث اليومية التي يرتكبها النظام،

وبالتالي انقطاع المواطن السوري عن العالم من ناحية، ومنعه من معرفة ما يجري في بلاده، من ناحية ثانية، الأمر الذي برع فيه النظام طوال عقود لاسيما عقد الثورة والحرب.

الفرق بين الدولة والعصابة يحدد في أن الأولى تقوم على تأمين وتوسيع وتطوير البنية الأساسية للمدن والقرى. أما الثانية فتقوم على تفكيك هذه البنية أو تعطيلها لضمان سلطتها أو لتأمين مدخول مالي عبر السلبطة على/ واستنزاف المجتمع إضافة لتفكيك البنية الأساسية في المدن من صناعة وخدمات وتعليم الأمر الذي وجدناه مستمرا في رفع أسعار الكهرباء الصناعية وفرض ضرائب جديدة على الصناعيين في حلب الأمر الذي أدى بأربعين ألف صناعي لإغلاق مصانعهم ومشاغلهم الحرفية والهجرة إلى مصر .

وفي خطوة واضحة لرفع الدعم عن هذا القطاع عرضت وزارة كهرباء النظام تأمين الكهرباء لمن يرغب بسعر 300 ليرة سورية للكيلواط الساعي وعلى مدار اليوم ومن دون أي تقنين، وهو دليل على أن الكهرباء موجودة لمن يدفع فقط، وهذا توجه خطير.

ومن البدهي أن نظاما متهما بالاستيلاء على الدولة وتحويلها إلى مزرعة طوال عقود وهو متهم بتدمير خمس مدن كبيرة وآلاف القرى والبلدات كليا أو جزئيا لا يمكن أن يتحول إلى دولة بين عشية وضحاها، خصوصا أنه مازال يعيش أجواء الحرب والأهم أنه مازال يتلقى دعما علنيا من دول إقليمية قوية وفاعلة ودعما دوليا من تحت الطاولة أقلّه الصمت عنه كنظام أو كعصابات قتلت مليون سوري وتعتقل مئة وخمسين ألفا ومازالت تتاجر بالسوريين.

استحالة التحول من عصابة إلى دولة

التحول من عصابة أو عصابات إلى دولة أمر يستحيل أن يتم وهو مناقض لقوانين التطور الاجتماعي، فلا يمكن بناء دولة إلا بتفكيك العصابة أو العصابات، عبر اعتقال قاداتها أو عبر طردهم خارج البلاد، ومن ثم بناء دولة من النقطة صفر. وهذا دور يمكن أن تقوم به روسيا، لو كان يعنيها بناء دولة سوريّة، أو لو كانت روسيا السوفيتية مازالت قائمة، فمن المؤسف أن ذهنية العصابات تحكم روسيا أيضا، وعلى شاكلة روسيا سارت سوريا منذ عشر سنوات ومازالت.

فليس من ضمن التطور الطبيعي للعصابة أن تنتقل إلى طور الدولة، على الأقل في سياق الخبرة أو المعرفة الاجتماعية السياسية المدرَكة تاريخيا، فحكم العصابة أو وجودها في الحكم هو أبلغ دليل على انهيار الدولة أو غيابها التام .

فالعصابة تفكر بذهنية المنفعة الفردية والانتقام من الجميع عبر تطويعهم وإذلالهم وفرض خوات وضرائب عليهم مقابل الشيء الوحيد الذي يمكنها أن تقدمه: "الأمن". والأمن هنا يعني إبقاء شرّها بعيدا عمّن تعتبرهم أنصارها أو عن الخاضعين لها، أولئك الذين يمثلون لها البقرة الحلوب.

نعم إن سوريا غارقة في الظلم والظلام معاً، ولا نهاية لظلام سوريا إلا بنهاية الظلم الواقع على شعبها..