كم تعلمنا من العشر العجاف!

2021.01.04 | 00:00 دمشق

efbc75d1f63283f1293132dd411f3f15.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرّت على السوريين عشر سنوات مريرة وكأنها عشرة قرون. رأوا وعاشوا فيها ما لم يره أو يعشه شعب في عالم كان في أحسن أحواله مجرد متفرج على حالهم. عالم لفّه في العقدين الماضيين صراع اقتصادي صامت ساخن بين الصين والكبار، وعسكري يبحث عن حروب غير مكلفة لإنعاش اقتصادي، يقابله محاولات روسية لاستعادة إمبراطوريتها.

في الشرق الأوسط، إيران تستمر بمشروعها التوسعي الخبيث؛ وإسرائيل تتغذى على خراب محيطها؛ وبعض العربان يتراكض نحوها، وعلاقاتهم الخفية معها تتكشف؛ وتركيا تتراقص بين حدود من نار تقارب الألف كم، والتمزق بين أميركا وروسيا.

في المحيط العربي، وبعد قرون من السيطرة العثمانية، وبضعة عقود من الاستعمار الحديث، وزرع سرطان اسمه إسرائيل، ورزوح تحت سلطات مرتبطة بالاحتلال المعاصر، وصولاً إلى حقبة دكتاتورية مريرة موجعة نذلة؛ كان لا بد من انتفاضة شعبية بعد غليان خلال كل تلك القرون والعقود.. من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن وصولا إلى حارتنا، التي ما توقع مطّلِعٌ على أعماق الأمور في سوريا أن انتفاضة فيها ممكنة.

في سوريا، تتوج ذلك التاريخ الموجع بعشر سنين من النار والدمار والدماء والاحتلال المتعدد. فما الذي خلصنا إليه مع اكتمال حقبة العشر العجاف.

هناك نظام غريب عنه حكَمَه واستبدَّ به كعدو؛ حيث بنى استراتيجية حكمه على المواجهة، لا العيش والتعايش

كثيرة هي الأمور التي كشفتها هذه السنوات العشر؛ والأهم ما تعلمه أو استخلصه السوري من هذه السنين؟ هناك نظام غريب عنه حكَمَه واستبدَّ به كعدو؛ حيث بنى استراتيجية حكمه على المواجهة، لا العيش والتعايش. نظام حصّن نفسه بخدمات جليلة قدّمها لمخابرات العالم، كي تحميه عند امتحانه. بلا أي حس بالمسؤولية تصرّفت عصابة النظام وكأنها تضع يدها على مزرعة فيها أقنان؛ تسرق تعبهم وبلدهم. عندما طلبوا جرعة حرية، قابلتهم العصابة بالرصاص والدمار وصولاً إلى استخدام السلاح المُحَرّم دولياً؛ وعندما عجزت عن مواجهتهم استجلبت ميليشيات مرتزقة، ثم دولة عظمى بإجرامها كي تحمي نفسها.

ما كان أحد ليتصور أن نظاما يمكن أن يستخدم طائرات لقصف مناطق فيها مواطنو بلده، أو أن يستخدم السلاح الكيماوي في قصفهم، أو أن يصفهم بالإرهابيين، أو أن يربط اسمهم باسم داعش، أو أن يعتقل نصف مليون منهم، أو أن يقضي عشرات الآلاف منهم تحت التعذيب، أو أن يدمر ويشرد نصف سكان بلد هو مسؤول عنه.

لقد تكشّفت وانفضحت بشكل صارخ كذبة "المقاومة والممانعة". حتى من كان يرى في نظام الأسد وإيران وحزب الله "نبراساً للمقاومة والممانعة"، اهتزت قناعته. وتوصل السوري إلى قناعة أنه حتى إسرائيل- محتلة الأرض ومرتكبة الجرائم -  أرحم منه؛ لقد كان هذا أكبر خدمة يسديها هذا النظام لمحتل الأرض ومغتصب الحقوق. إن أهم ما أنجزته هذه العشر العجاف هو أنها فضحت منظومة الاستبداد. لقد تعرى هذا النظام تماما حيث ارتكب من الجرائم ما يجعل حتى إسرائيل تجد صعوبة وتتردد بقبول صفقة معه.

ليعلم السيد بوتين أن السوريين، الذين ينظر إليهم هكذا، هم الأكثر أخلاقاً والأنبل، وهم أصحاب الحق، وأهل الدم، والمسؤولين، والغيارى على بلدهم

كشفت هذه السنين- ورغم كذب واحتيال النظام وروسيا التي تحميه- عقم العملية السياسية مع النظام. لقد أفرغ الروس العملية من مضمونها، ليس فقط بخلق مسارات خارج إطار جنيف، بل من خلال النظر للسوريين والتعامل معهم كأناس مهزومين أمام نظام الأسد. هذه النقطة بالذات هي سر الفشل الروسي في سوريا. كل ما فعله بوتين عسكرياً قيمته صفر، إن لم يتوَّج بإنجاز سياسي.

ليعلم السيد بوتين أن السوريين، الذين ينظر إليهم هكذا، هم الأكثر أخلاقاً والأنبل، وهم أصحاب الحق، وأهل الدم، والمسؤولين، والغيارى على بلدهم. أما تلك المنظومة التي حماها، ويسعى لإعادة تأهيلها فهي الحاملة لعقل العصابة والمزيِّفة والمزيَّفة والأنانية والمستبدة بالبلاد والعباد، وهي من سفكت الدم وهي المهزومة والزائلة حتماً؛ وإذا كان هدف بوتين تكريس منظومة الاستبداد الأسدية؛ فهو واهم جداً؛ لأن إسرائيل التي يسعى هو ذاته لنيل رضاها، لم ولن تتمكن من ذلك.

اكتشف السوريون آلاف الأمور خلال هذا العقد؛ تعلموا الكثير، وبالطريقة الأصعب؛ جروحهم ومواجعهم بلا ضفاف؛ وكل ذلك أعطاهم قوة ومناعة قلَّ توفرها عند أي شعب آخر. رغم الصورة الضبابية، فهم يدركون الآن أن سيادة بلدهم واستقلاله وحريته ومنعته وسلامه وتعايشه وازدهاره وإنقاذه لا يمكن أن تتحقق مع استمرار منظومة الاستبداد، ولا مع وجود الاحتلالات. أهم ما اكتشفوه هو أنهم حتى ولو لم يستطيعوا دحر الاستبداد والاحتلال حاضرا، لن يسلّموا أو يستسلموا لمشيئته ويعتبروا ذلك أمراً واقعاً.