كذبة المعابر.. كذبة الإنسانيّة

2021.06.29 | 06:06 دمشق

5845c5dac46188447a8b4672.jpg
+A
حجم الخط
-A

"كيف يعقل ألا نجد في قلوبنا حسّاً إنسانياً مشتركاً لاتخاذ الإجراءات اللازمة؟" سؤال بالغ الحساسية طرحه "بلينكن" وزير الخارجية الأميركي وهو يترأس الجلسة الشهرية لمجلس الأمن حول الجانب الإنساني للوضع في سوريا. بدا الرجل كأنه يستدر شفقة حليفي نظام الأسد روسيا والصين كي لا يستخدما الفيتو في أثناء طلب الموافقة على تمديد إدخال المساعدات الدولية، من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية في العاشر من تموز.

سيبدو لمن يتابع الملف السوري دولياً بين القوى المتصارعة، وكأن الجميع حريصون على قانونية ومشروعية أي إجراء في هذا الشأن، ولن يسمح أي طرف بأن يسجّل على نفسه أي خرق. وعلى المتابع كي يصدّق هذا الحرص أن يتجاهل ما يشاهده بأم العين وما يتم تناقله من أخبار يومية. سيبدو لمن سيصدّق ما يقال في المحافل الدولية أن الساحة السورية ملعبٌ للنزاهة، فلا شيء يتم خارج الشرعية الدولية. لا إسرائيل تقصف أهدافها المنتقاة بعناية على مدار السنوات الماضية، ولا روسيا تحتل السماء السورية عبر طائراتها، ولا أميركا تتمركز في الشرق ولا تركيا في الغرب، ولا إيران وتابعها حزب الله يسيطرون على العاصمة، بل وعلى معظم المساحات التي تعتبر تحت سيطرة النظام. وأن لا أسلحة ولا كل أنواع الذخائر تمر إلى ساحة التصفيات تلك من المعابر الشرعية وغير الشرعية. أما في ملف المساعدات الإنسانية فعلى الجميع انتظار الموافقة الروسية المرتجاة، كي لا "يواجه ملايين الأشخاص في شمال غربي سوريا الكارثة" بحسب مارك كاتس نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية، الذي وصف بعض سكان تلك المناطق بالأشخاص "الأكثر ضعفًا في أي مكان في العالم".

الميليشيات الرديفة للنظام هي التي تسيطر على الحصة الأكبر من تلك المساعدات، لتصل إلى السوق السوداء وتباع هناك عبر مافيات الفساد

موسكو التي توفر الممرات للطائرات الإسرائيلية في أثناء قيامها بعملياتها في سوريا بتنسيق دقيق، للمفارقة تتحجج بالسيادة السورية لعدم السماح بوجود معابر خارجة عن سيطرة نظام الأسد، وهي موسكو ذاتها التي حاولت قبل فترة إقناع الجانب التركي بفتح معابر بين مناطق النظام والمعارضة الخارجة عن سيطرة هذا النظام، وتم رفضه من قبل الأهالي. وهي موسكو ذاتها التي تعلم أن المساعدات الأممية التي تدخل إلى مناطق النظام عبر معبر "المصنع" على الحدود السورية اللبنانية، وتوزع بآلية بعيدة عن إشراف الأمم المتحدة، في بلد يحكمه الفساد من رأسه حتى جذوره. وليست قليلة الأخبار المؤكدة التي تتوارد بين فترة وأخرى وتفيد بأن الميليشيات الرديفة للنظام هي التي تسيطر على الحصة الأكبر من تلك المساعدات، لتصل إلى السوق السوداء وتباع هناك عبر مافيات الفساد التي راكمت خبرات خاصة بالنهب والإثراء خلال السنوات الأخيرة. طبعاً لا يلغي هذا أن هناك ارتكابات في ذات هذه الملفات ظهرت أيضاً في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، وتم في العديد من الحالات استثمار المساعدات للثراء ولكسب الولاءات.

مع ذلك، سيبدو موقف روسيا مفهوماً، فهي لم تكفّ للحظة عن تعزيز سلطة الأسد، وتقويض أي حياة للسكان الذين يعيشون خارج سيطرته، عبر قصف قراهم وحتى مخيماتهم ومستشفياتهم. أما غير المفهوم فهي الحساسية العالية للجانب الأميركي والغربي عموماً اتجاه هذا الملف والتزامهم بتمريره عبر الآليات الشرعية في بلاد لا شيء فيها شرعي، وحشد الحلفاء للوقوف على أعتاب موسكو علّها توافق على تمرير موافقتها. وكل عاقل يعلم أن موسكو استعادت دورها الوظيفي الدولي عبر البوابة السورية وبموافقة غربية، لتنفذ المهام التي تقوم بها برضا غربي عموماً وإسرائيلي تحديداً.

منذ عام 2011، استخدمت موسكو حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن 16 مرة فيما يخص الشأن السوري. وفي العديد من تلك الحالات بدا أن الفيتو الشرير كان يحوز على رضا غربي وأميركي تحديداً. فما تستطيع موسكو أن تفعله بالصلافة المعروفة عن سياساتها، محرج بعض الشيء لأميركا كي تضطلع فيه بنفسها. وليس قليل الوجاهة أن تتذرع روسيا اليوم، بأن المعبر يدار راهناً بواسطة إدارة مدنية تابعة لحكومة الإنقاذ المعروف بأنها مجرد واجهة لهيئة تحرير الشام.

كأن هذا العالم يحبس أنفاسه بانتظار موافقة روسيا العظمى قائدة العالم على تمديد شريان الحياة لأناس يعيشون يومياً شتى صنوف الموت

قبل عامين تكالب على المنطقة الشرقية جميع الفاعلين العسكريين الدوليين ليقوموا بتهديمها وإفراغها من سكانها. جرى الأمر تحت مشروعية مكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش في تلك الفترة، وهو طبعاً يستحق القتال، ولكن ليس بهدف رسم خرائط جديدة تنعكس على السكان كما جرى. يومها تم إعلامياً تقديم المنطقة وتحديداَ مدينتي الرقة ودير الزور وأهلها على صورة داعشيين، صورة مدعومة بممارسات الحسبة والأمنيين والإعدامات للمدنيين حتى ليغدو سكان المنطقة -وهم أشدّ من تلقوا جرائم داعش- داعشيين. اليوم وعلى نحو مشابه بالآليات لتبييض الذاكرة تنشغل الهيئات الدولية والإعلام العالمي بقصة المعابر، هو بالحقيقة معبر وحيد "باب الهوى"، وكأن هذا العالم يحبس أنفاسه بانتظار موافقة روسيا العظمى قائدة العالم على تمديد شريان الحياة لأناس يعيشون يومياً شتى صنوف الموت.

لم يشهد أي حدث تاريخي (فيما أعلم) محاولة غسيل للذاكرة وهو لم ينتهِ بعد، كما يحدث اليوم في سوريا. هكذا وبهذه البساطة يتم تقطيع جذور الحدث السوري، وإغفال كل عين عن أساس البلاء وسبب ثورة السوريين، وإلهاؤهم بتفاصيل بعيدة عن مشكلتهم الأصل. أو ليست نكتة بلهاء وتدعو للعار مسألة نقاش الدستور على سبيل المثال؟ وكذا اليوم النقاش حامي الوطيس بمعابر يحلو لهم وصفها بالإنسانية، من قبل حكومات وهيئات تتقن جيّداً الحديث عن الإنسانية على الشاشات وعلى الورق أحياناً، فقط حين يكون معدّاً للنشر.