كادَ "نبيه برّي" أن يقول خذوني

2020.10.07 | 00:02 دمشق

438.jpg
+A
حجم الخط
-A

  لم يكن من المعتاد أو المألوف أن يحتاج مؤتمر صحفي لكل تلك المقدمة التاريخية من رئيس مجلس النواب اللبناني، ثم ليتلو بعدها نص اتفاق الإطار لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل في وقت أقل مما احتاجته تلك المقدمة التي تحدث فيها عن فترة مفاوضات تمتد لعقد من الزمن واضطر خلالها لذكر عدد من مندوبي السلف الصالح الأميركي الذين تناوبوا على ملف مفاوضات الترسيم.

نبيه بري (82 عاماً) الرئيس المزمن للمجلس النيابي اللبناني ورغم الخلافات التي أودت أحياناً إلى مواجهات بين حركة أمل التي يرأسها وحزب الله، إلا أنّ محطات عدّة تخبرُ بأنه يستطيع بسهولةٍ التحوّل للعب دور الواجهة السياسية للحزب في المواسم الصعبة والحرجة لحزب الله. عام 2006 حصل نبيه بري على تفويض كامل من حسن نصر الله أمين عام الحزب ليفاوض الجميع باسمه أثناء حرب تموز، وهذا شرف لم يحزه قبله سوى حافظ الأسد عام 1996 حين كان يفاوض الطرف الإسرائيلي رسمياً نيابةً عن الجانبين السوري واللبناني، حيث كان العنوان الأثير للأسد وحلفائه في تلك المرحلة هو "تلازم المسارين السوري اللبناني".

يقول برّي في تمهيده "إثر تردد الأمم المتحدة وتمنعها وطلبها مساعدة الولايات المتحدة الأميركية بادرتُ شخصياً لطلب المساعدة"

المقدمة التاريخية الطويلة التي تلاها بري في مؤتمره الصحفي يوم الخميس مطلع الشهر الجاري حول مفاوضات عمرها عقد من الزمن  لترسيم الحدود، حاول أن يبدو من خلالها وكأنه يتابع أمراً قديماً وليس ابن ساعته ولا هو نتيجة الظرف الإقليمي الحالي والضغوط الدولية والأميركية على وجه الخصوص، هذه المقدمة التي احتاجها برّي بشدّة هي بالذات التي تشي أنه كان يهدف إلى حرف النظر بل إلى تجاهل التطورات الراهنة التي أفضت إلى اتفاق الإطار الذي أعلن عن التوصل إليه خلال المؤتمر.

العقوبات المتلاحقة على إيران وعلى لبنان وعلى نظام الأسد الحليف، إضافة إلى الضغط الأميركي على أنظمة المنطقة للتطبيع مع إسرائيل (لبنان وسوريا ليستا استثناءً ولا حتى إيران صاحبة إيران ـ غيت)، وتوزيعها مكافآت للسائرين بركبها، كما في حالة الرضا عن السودان التي تصنفها الولايات المتحدة كدولة داعمة للإرهاب. كل هذا بدا وكأنه لم يكن في خلفية الاتفاق كما كان بري يحاول القول، وإن لم يقل.

برّي، الذي استأثر بهذا الملف عبر الاستقواء بموازين القوى اللبنانية الداخلية الراجحة لصالح حزب الله، وليس عبر الصلاحيات الدستورية ورغماً عن جميع الأطراف، لم يكن ليتمكن ولا حتى يتجرأ على فعل ذلك بصفته رئيساً للمجلس النيابي ولا حتى بصفته الحزبية كرئيس لحركة "أمل"، وإنما فعلها بيسرٍ كمندوب لحزب الله وبدعم إيراني سوري بطبيعة الحال. وبصفته هذه أثبت أكثر من مرة، كان آخرها مفاوضات حرب تموز 2006، أنه مفوَّض الحزب المقبول دولياً كمحاور.

يقول برّي في تمهيده "إثر تردد الأمم المتحدة وتمنعها وطلبها مساعدة الولايات المتحدة الأميركية بادرتُ شخصياً لطلب المساعدة" أي أن المقاومة ومن خلفها إيران ما كانت لتقبل ولا بحال من الأحوال بمساعدة "الشيطان الأكبر" لولا الإصرار الأممي المذموم، ولولا أن برّي قد مَوّن نفسه وبادر شخصياً بطلب المساعدة.

بعد مؤتمر الطائف كان هناك حرص سوري إيراني على تهيئة الأرض والظروف بما يودي لسيطرة حزب الله بهدف الوصول إلى ما وصل إليه لبنان في السنوات الأخيرة. تمَّ سحب السلاح من كافة القوى اللبنانية بعد الحرب الأهلية، وأُبقي على سلاح حزب الله ليحتكر وحده مقاومة إسرائيل المحتلة لجنوب لبنان، وكان المطلوب على الدوام ومهما تبدّلت الظروف، الإبقاء على (مشروعية) هذا السلاح، ليُصار به وعبره إتمام السيطرة على القرار اللبناني وليغدو الحزب الحاكم الفعلي للبنان المنصة الاستراتيجية المتقدمة لإيران.

انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان في أيار عام 2000 فسيطر الحزب على كامل الجنوب، وبقرار الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد الذي اتخذه إيهود باراك بعد فشل المفاوضات المباشرة مع دمشق مطلع عام 2000 خسر حافظ الأسد (مات بعد أسبوعين) ورقة "تلازم المسارين" والتي كان بموجبها سوف يحرر الجولان عبر المقاومة في جنوب لبنان، في حين كسبت إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، أنها نفذت قرار الأمم المتحدة من طرفها، لكن ميليشيا وليس جيش لبنان هي التي سيطرت على المنطقة فقدّمت نفسها كدولة امتثلت للقرار الأممي مقابل ميليشيا لا تعترف بشرعية جيش دولتها، ورغم ذلك لم يُعجِز الأمر حزب الله فتم التمسك بلبنانية مزارع شبعا وكفر شوبا، المحتلتين منذ العام 1967 أثناء احتلال إسرائيل لهضبة الجولان، وكانت هي الذريعة للإبقاء على سلاح الحزب من أجل تحريرهما. كل هذا تمَّ بدعمٍ بل وبتخطيط سوري إيراني، وسط اعتراض، لم يقدم ولم يؤخّر، من معظم الأطراف اللبنانية. للمفارقة فإن السلطة السورية رفضت عام 2000 الاعتراف بلبنانية تلك المناطق التي كانت تحت سيطرة القوات السورية لحظة احتلال إسرائيل لها.

يعلم نبيه برّي، كما نعلم جميعاً، أن المطلوب التوسيع المضطرد لنفوذ حزب الله في لبنان ليُبقي ويقوّي نفوذ إيران في المنطقة.

يعلم نبيه برّي، كما نعلم جميعاً، أن المطلوب التوسيع المضطرد لنفوذ حزب الله في لبنان ليُبقي ويقوّي نفوذ إيران في المنطقة. بل ويعلم أن تعقيدات اللحظة التاريخية تتطلب هذه الانعطافة وتقديم هذا التنازل بمباركة إيرانية وسورية وحتى بطلبهما، وهو أعلمنا بأن إنجاز هذه الخطوة لم يكن يتطلب انتظار عشر سنوات من تعطيل إيران وحزب الله لها، بدليل عدم السماح بل ومنع الحكومة اللبنانية ورئاسة الجمهورية بأخذ الأمر على عاتقهما كل تلك السنوات ليس طبقاً للدستور بل بحكم القوة العسكرية للثنائي حزب الله ـ أمل.

معروفٌ عن برّي، الرجل السياسيّ خفيف الظلّ الذي يمرر كثيرا من مواقفه بطرافة وبروح مرحة (لم يكن أبداً كذلك في هذا المؤتمر) بأنه يمتلك جاهزية عالية للتعامل مع أي منعطف قد يبدو لكثيرين أنه ليس مبدئياً بل وليس من اليسير تمريره أو ابتلاعه، وفي هذا برّي ليس استثناءً لبنانياً على أية حال، وفي مؤتمره الصحفي هذا، تجلّت هذه الميزة لديه. فعلها وأهدى نقطة إيجابية لطالما أرادتها إسرائيل، بينما كان يقدم نفسه للصحفيين الحاضرين وللبنانيين جميعاً، وكأنه ناضل عشر سنوات مُضنية ليصل إليها. فعلها بعد عقود من شعارات العداء للشيطانين الشهيرين في العرف الإيراني، أميركا وإسرائيل. فعلها بكل هذا اليُسر، ولكن من قال بأن التاريخ سيقف على هذه فقط ليحاسب برّي على ما فعل؟