كأس الأمنيات الفرعوني ومقبرة أماني السوريين

2021.08.17 | 06:57 دمشق

2021-637608295690157531-15.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل سبق لك، وأنت طفل، أن طرح أحدهم عليك السؤال الشهير: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ طبعاً حدث ذلك مرات كثيرة. وحتماً أجبت بواحدة من الإجابات التقليدية عن المهن المقدّرة اجتماعياً كأن تكون مهندساً أو طبيباً، وإن كنت تمتلك بعض روح مغايرة للسائد، فقد تكون أجبت شيف مطعم أو ممثلاً أو قبطان سفينة. لكن حتماً لم يخطر ببالك أن تجيب متوقعاً، بحسب ما تمليه مفردات الحياة السورية اليوم، بأنك ربما ستكون معتقلاً أو قتيلاً تحت التعذيب، أو مختفياً قسرياً أو مُهجّراً، ولا محروقاً بالبنزين ومدفوناً في مقبرة جماعية، وفي حالة من التفاؤل المفرط يمكنك الحلم بأن تكون لاجئاً في بلد أوروبي. وبأي حال من الأحوال لم يكن ليخطر لك أن تجيب: سأنجو وأكون إنساناً يقبّل يد الكلب ويدعو عليها بالكسر. رجل لا يطلب من الله سوى الستر بينما يتابع سيره قرب الجدار. أو رجل يهمس بشكواه في غرفة مغلقة ويلفّه الخوف من أن يسمعه أحد ما.

كانت باذخة أمنيات الملك الفتى، وهذا مفهوم، فهو ملك على أية حال، وأحلام الملوك ستختلف حتماً عن أحلامنا الواقعية البسيطة

قبل مئة عام، اكتشف عالم الآثار البريطاني "هوارد كارتر" قبر توت عنخ آمون في وادي طيبه. من بين العديد مما احتواه هذا الكنز الفريد، كان هناك كأس من المرمر يرمز إلى حياة أبدية للملك، وأمنيته في العودة إلى الحياة. يحوي الكأس على نقش مستطيل حول حوافّه. النقش يذكر الأسماء الشخصية للملك "محبوب آمون.. سيد السماء.. سيد الأرضين"، وداخل مربع صغير هناك نقش آخر يحوي أمنية في حياة طويلة للملك تملأ فيها السعادة عينيه. سيطلق كارتر على هذا الكأس اسم "كأس الأمنيات". نعم كانت باذخة أمنيات الملك الفتى، وهذا مفهوم، فهو ملك على أية حال، وأحلام الملوك ستختلف حتماً عن أحلامنا الواقعية البسيطة.

تشكو أم سورية تعيش اليوم وحدها لابنها اللاجئ، أن رغيفين وثلث الرغيف، وهي حصة الفرد السوري من الخبز يومياً بحسب نظام الأسد، لا يكفينها! وتتساءل كيف وصلنا إلى هنا؟ لأي شخص غير سوري، ستبدو هذه الشكوى واردة، وربما تصدر عن إنسان يعيش في بلد صحراويّ قاحل، يفتقر إلى مصادر الغذاء. ولن يكون حينئذ قد جانب الصواب. لكن سوريا وعبر نصف قرن تحولت من بلد مصدّر للمواد الغذائية وعلى رأسها القمح، إلى بلد ينقصه كل شيء. كل شيء حرفياً وليس مجازاً.

في اللقاء الشهير لأعضاء اتحاد الكتاب العرب مع قيادة الجبهة الوطنية التقدمية عام 1979. سيطرح الراحل ميشيل كيلو جملة أسئلة على أعضاء الجبهة الحاضرين. أسئلة ما زالت حتى اليوم وجيهة، وتبدو راهنةً، مع تعديل طفيف لتغيير عدد السنوات لتكون ثمانياً وخمسين سنة: "عندما نعد الناس بعد 16 سنة، بحل مشكلة الرغيف، فمتى سنتصدى لحل المشكلات الوطنية الكبرى، ومشكلات السكن والصحة والتعليم والزراعة المتدهورة والصناعة التابعة.. إلخ؟". حينذاك كان الرغيف موجوداً (نسبياً)، ولكن الشكاوى من سوء الصنع.

يومئذ، كان قد مضى 16 سنة على وصول البعث إلى السلطة، وتسع سنوات على انقضاض حافظ الأسد على رفاقه في الحكم، وإجهازه على البعث ليكون ديكتاتوراً يحكم بمفرده، ويخطط بعدها بسنوات، ليورث السلطة لابنه الأكبر، الذي مات فاضطر إلى أن يحوّل التَرِكة (سوريا والسوريون) لابنه التالي. ابنه الذي يشتم اليوم الخونة الذين غادروا (الوطن) وفرّوا بجلود أبنائهم. للمفارقة، معظم هؤلاء الخونة، يساهمون في زيادة مخصصات أهلهم في سوريا، من الخبز وغيره، ليحتملوا متابعة العيش في (وطن الأسد) الذي سلّمه للمحتلين القادمين من خلف الحدود، ولقتلة ولصوص وطنيين بحسب معاييره، رغم أنهم منعوا عن أهله أبسط مقومات الحياة الطبيعية.

لدى السوريين مهما ساءت أحوالهم وبدت أنها في الحضيض، خوف دائم مما هو أعظم، في بلد يحكمه الأسد

يعرّف المختصون "عتبة الألم" بأنها الحد الأدنى من شدّة التأثير التي يشعر بعدها الإنسان، وحتى الحيوان، بالألم. وهي تختلف من إنسان لآخر، ويمكن لبعض الاعتلالات في النهايات العصبية، أن ترفع هذه العتبة فتزداد قدرته على الاحتمال. السوريون اليوم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، غيّروا هذا التعريف وكسروا كل عتبةٍ للألم، بسبب اعتلالات ما زالت تنزل على رؤوسهم منذ أكثر من نصف قرن. فأن تعتقل لسنة أو اثنتين فهذا ما دون عتبة الاحتمال، وهو مقبول على نحو ما، فقد نجوت. وبالتأكيد ألا تتناول الحصة الغذائية الطبيعية لأي إنسان فهذا من عاديّات الأمور. أن تعيش بلا كهرباء ولا تدفئة ولا وقود منزلي، فتلك أصبحت من اليوميات التي يمكن احتمالها. ومن البديهيات طبعاً، أنك لا تستطيع أن تحتج، وعليك هنا إرادياً التحكم بعتبة احتمال الألم لديك حتى لا يأتي الأعظم. لدى السوريين مهما ساءت أحوالهم وبدت أنها في الحضيض خوف دائم مما هو أعظم، في بلد يحكمه الأسد. فما هو أعظم إن لم يكن قد واجهك شخصياً، فأنت حتماً صادفته لدى مئات آلاف الآخرين. الآخرون الذين فقدوا أبناءهم في السجون، ولا يعرفون مصيرهم. الآخرون الذين اكتشفوا صورة جثة ابنهم المشوهة بين صور "قيصر". الآخرون الذين أنهت البراميل المتفجرة حياة عائلاتهم بالكامل.

بعد اكتشاف قبر توت عنخ آمون، ساد اعتقاد على مستوى العالم بوجود ما سُمّي "لعنة الفراعنة"، فمن ينفخ في البوق المكتشف سوف تصيبه اللعنة، وغالباً ستؤدي إلى هلاكه، وكذا من يلمس كأس الأمنيات. بينما في سوريا فقد أصابت "لعنة الأسد" السوريين دون استثناء، حتى لو لم يكن لديهم أي كأس، في بلد جعل منه الأسدين الأب والابن، مقبرة لكل الأمنيات.