"قيصر" سوريا "بويكس" إسبانيا.. صور موت متماثل

2021.01.26 | 00:01 دمشق

rwsrdaeiej.jpg
+A
حجم الخط
-A

مطلع عام 1946، وقف المصوّر الإسباني فرانسيسكو بويكس، وهذا اسمه الحقيقي، أمام محكمة نورنبرغ، وأشار بيده إلى بعض المتهمين بارتكاب الهولوكوست من النازيين، خلال جلسة مصوّرة بالأبيض والأسود لوقائع المحكمة، وكان وجهه واضحاً للكاميرا. أدلى بويكس بشهادته بعد أن قدّم للمحكمة صوراً كان قد هرّبها من معسكر الاعتقال "ماوتهاوزن" توثّق جرائم النازيين. في أبريل من نفس العام سوف يتكرر المشهد ذاته مع بويكس في المحاكمة العسكرية الأميركية التي جرت في "داخاو".

بعد 68 سنةً من شهادة بويكس، في 31 يوليو عام 2014 سيقف السوري "قيصر"، وهذا اسمه المستعار، أمام الكونغرس الأميركي، دون وجود أي من المتهمين بارتكاب المجزرة التي سيشهد عنها، في جلسة سرّية، لم يسرّب منها سوى بضع صور ملوّنة يبدو فيها ظهر "قيصر" وقد ارتدى سترة زرقاء بقبّعة، حتى لا يظهر وجهه لأي أحد، ويدلي بشهادته حول 11 ألف ضحية قتلوا تحت التعذيب، كان قد هرّب 55 ألف صورة لهم، التقط معظمها بنفسه في معتقلات نظام الأسد في سوريا. بعد ست سنوات في 11 مارس 2020، سوف يتكرر المشهد ذاته غير المألوف في الكونغرس. سيعود قيصر ليدلي بشهادة مماثلة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بالإخراج ذاته، مخفياً وجهه ومرتدياً سترة رياضية تفوق قياسه وبغطاء للرأس، بعد أن طُلِب من الحضور ووسائل الإعلام إطفاء الهواتف وآلات التصوير.

في سنّ الثامنة عشرة، التحق الشاب الكتالوني "بويكس" بالمقاومة ضد الديكتاتور فرانكو عام 1938، وكان حينئذ عضواً في "اتحاد شباب كتالونيا الاشتراكي". عُرف عن "بويكس" اهتمامه بالتصوير منذ طفولته، وهي هواية والده الذي كان يعمل خياطاً. وفي سن مبكرة نشرت صوره التي التقطها بين عامي 1936-1937 في الصحف والمجلات.

بينما نعرف كل تلك المعلومات وأكثر، عن المصور الإسباني، الذي سيكون له دور مؤثر في محاكمة المجرمين، فإننا لا نعرف حتى اليوم عن قيصرنا الذي غادر سوريا منذ نهاية عام 2013، أية معلومات

بعد هزيمة الجمهوريين في الصراع الذي أودى بأرواح قرابة 600 ألف إسباني، وأجبر أكثر من نصف مليون على ترك بلدهم، واللجوء إلى الدول المجاورة. سيهرب بويكس عام 1939 مع آلاف آخرين إلى فرنسا، ليلتحق بالمقاومة الشعبية بعد غزو هتلر لفرنسا عام 1940. هناك سوف تعتقله القوات الألمانية وتسوقه مع آلاف الإسبان إلى معتقل "ماوتهاوزن" في شمال النمسا في 27 يناير 1941. المعسكر الذي تديره الفرقة النازية الخاصّة(SS)  وتطلق عليه اسم "مُحطّم العظام".

بينما نعرف كل تلك المعلومات وأكثر، عن المصور الإسباني، الذي سيكون له دور مؤثر في محاكمة المجرمين، فإننا لا نعرف حتى اليوم عن قيصرنا الذي غادر سوريا منذ نهاية عام 2013، أية معلومات، سوى أنه كان مصوراً في الشرطة العسكرية، احتفظ بنسخ من صور القتلى تحت التعذيب، واستطاع تهريبها بمساعدة صديق إلى خارج سوريا. صورٌ أكد فحص دقيق أجراه خبراء دوليون صحتها، بحسب تقرير قدمه المندوب الفرنسي لرئيس مجلس الأمن في الثاني من نيسان 2014. وكان مدّعون عامون ذوو خبرة في محاكم دولية سابقة في سيراليون ويوغوسلافيا، إضافة إلى فريق استدلال جنائي، حققوا مع قيصر وأكدوا أنه شاهد موثوق. كل ذلك قبل أن تصل صور قيصر إلى العديد من المحافل الدولية ووسائل الإعلام، لكن من دون أية مفاعيل قانونية فعلية. ولتبقى تلك المأثرة في حدود البطولة الشخصية التي كان من الممكن أن يدفع "قيصر" حياته بسببها.

بويكس.jpg
المصور الإسباني فرانسيسكو بويكس

في معسكر "ماوتهاوزن" الذي ضمّ ما يقارب 200 ألف سجين من جنسيات مختلفة، كان بويكس أكثر حظاً من باقي السجناء، فإضافة إلى لغته الإسبانية والكاتالونية، كان يجيد الفرنسية والألمانية لذا تم استخدامه كمترجم، وعندما تبين أنه مصوّر موهوب، نُقل للعمل في قسم التصوير في المعسكر. هناك سيطّلع ويتفحص آلاف الصور السالبة "النيغاتيف" التي التقطت في المعسكر. صور لتجارب طبية على المعتقلين، ولإعدامات وطرق تعذيب، وصور لغرف الغاز وأفران الحرق، ولسجناء ماتوا متجمدين في الثلج، ولجثث سجناء مرميين من أعلى الجرف. هول ما رآه في الصور، جعل بويكس بمساعدة شبكة من سجناء المقاومة الإسبانية، يخفي قرابة 20 ألف صورة "نيغاتيف" في عدد من نواحي المعسكر.

اكتشف القادة النازيون اختفاء الصور، وحاولوا بكل الطرق الممكنة العثور عليها. تم إعدام بعض المنتمين إلى شبكة المقاومة وتعذيب بعضهم. بويكس، على الرغم من التعذيب الشديد الذي تعرّض له، رفض الاعتراف بمكان إخفاء الصور. وللمصادفة الطيبة، سيقترب في تلك الفترة الجيش الأميركي من المنطقة، وسوف يفرّ القادة الألمان على عجل، مع أوامر بتدمير المعسكر وعدم ترك أي أثر. وتلك كانت محاولة النازيين لمحو آثار الإبادة الجماعية عن طريق التدمير السريع لمعسكرات الاعتقال التي تركوها وراءهم. إضافة إلى أنهم، أثناء الهروب، أطلقوا النار على السجناء قدر استطاعتهم.

سيطر الجنود الأميركيون على معتقل "ماوتهاوزن" في 5 مايو 1945. سيكتشف بويكس أنه نجا من موتٍ مؤكد وصار حرّاً، حتى قبل وصول المحررين. بينما كان زملاؤه الإسبان قد رفعوا لافتة عملاقة على جدار بوابة الدخول، هرع بويكس إلى معمل التصوير، وأخذ كاميرا سيلتقط بها أول صورة لتحرير المعسكر، بدت فيها طليعة الجنود الأميركيين وهم يدخلون إلى معسكر "ماوتهاوزن".

بطلب من الادّعاء الفرنسي، سيحضر بويكس في يومي 28 و29 يناير 1946 إلى محكمة نورنبرغ لمحاكمة مجرمي النازية. بعد أن قدّم نحو ألف صورة تُبيّن الظروف التي عاش فيها السجناء، وكيف قتلوا في ذلك المعسكر، إضافة إلى صور قادة ألمان في زياراتهم للمعسكر، لتكون دليلًا على أن المعسكر كان معروفاً، وزاره كبار قادة الرايخ الثالث. وفي أبريل 1946سيشهد مرة أخرى في المحاكمة العسكرية الأميركية التي جرت في "داخاو" ضد 46 متهماً ممن خدموا في معسكر "ماوتهاوزن".

بعد الكشف عن صور قيصر، ستقام معارض في عدد من دول العالم، تعرضُ فجاجة جريمة القتل تحت التعذيب التي طالت آلافاً (على الأرجح عشرات آلاف السوريين)، سيمر زوار تلك المعارض ويذرف بعضهم دمعة أمام هول تلك الصور. لكن باستثناء قانون قيصر الشهير الذي أُقِر عام 2020، بعد تعطيل لست سنوات، والذي لم ولن يحدث أي أثر حقوقيّ، لجهة محاسبة القتلة، وباستثناء جهود فردية لمحامين سوريين متطوعين يحاولون بشجاعة رفع دعاوى في محاكم أوروبية لا تكاد تقبلُ برفْعِها، فإن أية محكمة خاصة لم تتشكل حتى اليوم وتستدعي قيصر بوجه مكشوف وهويّة واضحة، ليدلي بشهادته المشفوعة بعشرات آلاف الصور بهدف إدانة ومحاسبة متهمين يعرفهم العالم أجمع.

حتى اليوم، ما زال قيصر يعيش في إحدى البلدان الأوربية بوجه دون ملامح، متخفياً باسم مستعار، مغالباً خوفه من مجرمين طلقاء، يمكنهم الوصول إليه وقتله

بعد ست سنوات من تحريره، مات بويكس في فرنسا بفشل كلوي من آثار الاعتقال، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره تقريباً. مات بعد أن كان أحد المؤثرين في محاكمة وإدانة عدد من الضباط والقادة النازيين، تاركاً لصديق سجنه الكاتالوني "خواكين لوبيز"، 600 صورة كانت بحوزته قبل وفاته. صور ستؤول فيما بعد إلى متحف مدينته برشلونة.

حتى اليوم، ما زال قيصر يعيش في إحدى البلدان الأوربية بوجه دون ملامح، متخفياً باسم مستعار، مغالباً خوفه من مجرمين طلقاء، يمكنهم الوصول إليه وقتله. مجرمون يتابعون يومياً مهنتهم الأثيرة في "القتل تحت التعذيب". وفي تراجيديا غير مسبوقة في التاريخ، يتابع سوريون آخرون، من ذوي المختفين، التدقيق في الصور المسربة بقلوب مرتجفة، وفحصها صورة صورة، للتأكد إن كانت ملامح أحد القتلى المشوّهين فيها تتطابق مع وجه ابنٍ أو أخٍ أو أبٍ اختفى في الثقب الأسود لسجون الأسد.