قيس سعيد والانقلاب على الديمقراطية

2021.07.29 | 06:32 دمشق

001-23.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد وصول قيس سعيد إلى قصر قرطاج عام 2019 احتفت به وسائل الإعلام العربية بوصفه أحد القادمين إلى السياسة لكنه ليس سياسيا كما كان يردد هو نفسه، اتصف بشعبوية محببه عبر تواضعه وهو ما دفعني للكتابة عنه حينها: "حضر الرئيس التونسي المنتخب حديثا، قيس سعيد، بكثرة على وسائط التواصل الاجتماعي. تثير تصرفاته تأييدا كثيرا، مثل توقفه للحصول على القهوة من المحل الذي اعتاد عليه قبل وصوله إلى قصر قرطاج، استقباله الشباب التونسي القادم على أقدامه من ولايات بعيدة بحثا عن العمل، استقبلهم في قاعة كبار الزوار، وودعهم بحفاوة وعناق وكأنهم من أبنائه، خطّه لتكليف رئيس الحكومة الجديد، الحبيب الجملي، بخط كوفي رائع، يعكس تمرّسه في القانون الإداري والدستوري، وأيضا الخط الكوفي. هذه كلها وغيرها إشاراتٌ تعكس التواضع الكبير الذي يحمله الساكن الجديد للقصر، بعكس الصورة التي ترسم عن رؤساء عرب يتصفون بالعجرفة والاستحقار للشعب، والأهم لموقعهم العام لخدمة مصالح شخصية، مثل الإثراء أو تعزيز السلطة الخاصة والشخصية لهم ولأبنائهم، أو تدمير معارضيهم بطرق غير مشروعة للحفاظ على مواقعهم".

انقلاب سعيد على المؤسسات التي أوصلته إلى السلطة وتكييف الدستور وفق ما يرغب ويرى يعكس أن تونس ما زالت في مرحلة هشة من عملية الانتقال الديمقراطي

لكن مع مرور الأيام كان واضحا أن سعيد لا يدرك عمل هذه المؤسسات السياسية التي أنجحت التحول الديمقراطي في تونس وأنه ربما بجهل أو عن تعمد إنما يهدف إلى تدميرها، وهو ما حصل بالفعل عندما قام بتجميد عمل البرلمان وسحب حصانة النواب وإقالة الحكومة حيث يمتلك رئيس الحكومة في الدستور التونسي عام 2012 الصلاحيات الأعلى بوصفه نظاما برلمانيا مختلطاً.

انقلاب سعيد على المؤسسات التي أوصلته إلى السلطة وتكييف الدستور وفق ما يرغب ويرى يعكس أن تونس ما زالت في مرحلة هشة من عملية الانتقال الديمقراطي بالرغم من دورة الانتخابات الرئاسية والتشريعية الدورية التي جرت، لكن معظم علماء السياسة يعتبرون أن استقرار المؤسسات الديمقراطية يحتاج على الأقل إلى أربع دورات تشريعية انتخابية تجري فيها الانتخابات بحرية ونزاهة تامة، وهو ما يعكس فشل هذه النظرية في الحالة التونسية.

فما كان يميز الانتخابات التونسية هو عزوف الناخبين عن المشاركة مما يدل على فقدان الثقة في أن نتائج الانتخابات ستحدث أي تغيير على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناخبين، وهو ما يخيف بأن يتحول هذا الصمت الانتخابي إلى عمليات احتجاج خارج الصندوق الانتخابي على شكل مظاهرات من الصعب السيطرة عليها أو أعمال شغب. وهو ما حصل بالفعل مع عدم قدرة الحكومة على الاستجابة على الصعوبات الاقتصادية وجائحة كورونا.

خسارة معظم الأحزاب الثورية والديمقراطية في المراحل الثالثة أو الرابعة من الانتخابات التشريعية في أوروبا الشرقية، رغم دور هذه الأحزاب الكبير في عملية التغيير الديمقراطي

عموما تحدث كل هذه الهزات السياسية كما يقال عليها في كل الدول حديثة العهد بالديمقراطية وهو ما حدث تقريبا مع خسارة معظم الأحزاب الثورية والديمقراطية في المراحل الثالثة أو الرابعة من الانتخابات التشريعية في أوروبا الشرقية، رغم دور هذه الأحزاب الكبير في عملية التغيير الديمقراطي ودمقرطة المؤسسات بعد مرحلة الاستقلال من الاتحاد السوفيتي والتغيير الكبير الذي جرى عام 1989 حيث خسرت منظمة التضامن البولندية، والسبب الرئيسي يعود إلى التوقعات الكبيرة التي تكون لدى المواطنين أن التغيير السياسي الكبير سيجلب معه نجاحا اقتصاديا وازدهارا على المستوى الوطني والفردي، وبالطبع لم يتحقق شيء من ذلك على المستوى الوطني في تونس حيث يثقل الدين العام الخزينة التونسية وهو ما يجبرها على الاقتراض بشكل دائم من البنك الدولي دون أن تعوض إيرادات السياحة أو تصدير الفوسفات من العجز الدائم في الميزانية أو يرفع نسبة النمو المنخفضة جدا على مستوى الأعوام الأربعة الماضية نسبة 2.1 وفقا للبنك الدولي، وفوق ذلك يبقى ترهل مؤسسات القطاع العام أو التوظيف الحكومي أحد أهم عقبات النمو والإصلاح الاقتصادي والتخلص من ذلك يكون عبئاً على كل مرشح ديمقراطي يريد أن يعد الناخبين بالتوظيف وفرص العمل.

وهو ما أدخل تونس في حلقة مفرغة من العجز الاقتصادي الذي يصبح أكثر تأثيرا مع ارتفاع نسب التعليم فالنسبة الأكبر من المتعلمين صوتوا للمرشح قيس سعيد الذي اعتمد على طلبته في إدارة الحملة الانتخابية المتواضعة التي أوصلته إلى الموقع الأول، في حين صوت الناخبون الأقل تعليما للمرشح نبيل القروي الذي حصل على المرتبة الثانية.

ربما نسخة المرشح قيس سعيد تختلف كليا عن نسخة الرئيس الذي انقلب على الدستور الذي أوصله إلى السلطة في عام 2019.