قليل من المصارحة لا يضير

2022.08.19 | 06:20 دمشق

إدلب
+A
حجم الخط
-A

بعيداً عن أي خيال يأتي من الشعر أو القصص والروايات، ومن حكايات الثورات المنتصرة، وقع السوريون الثائرون ضد نظام الإبادة الأسدي في فخاخ كثيرة، طول السنوات الماضية. بعضها ترك آثاراً لا يمكن نسيانها، كالندوب على الأجزاء الظاهرة من الجسد البشري، التي لا تكتفي بتذكيرنا بما حصل، بل إنها تظهر للآخرين أيضاً، وبما يشكل ذاكرة مشتركة عن الواقعة المؤسفة.

والبعض الآخر من تلك الحوادث يسهل نسيانه، لا لكونه استثناء، بل لتكراره المستدام، ليس في واقعنا فقط، بل في كل الفضاءات المشابهة.

يمكن قياس حال الثورة المحلية بناء على معيارية تستدعى من مثيلاتها الأخرى، لكن من سيقنع أصحاب العلاقة بالذات، بأن هزائمهم لم تأت لخاصية كامنة أو قابعة في تكوينهم النفسي أو الطائفي أو الديني وكذلك القومي وغير ذلك؟ وأن ما جرى لهم قد وقع فيه غيرهم، لكن أحداً ما، قرر أن ينهي القصة، وأن يحمل أعباء إنهاء المآسي دفعة واحدة، حتى وإن كللت سيرته بعار مصافحة العدو! سيحدث هذا في وقت ما، ولن يكون أحدٌ مرتاحاً لما يجري، إذ صرنا وبعد كل هذا الزمن وما تضمنه من مشاق بعيدين كل البعد عن النهايات السعيدة المرتجاة!

لا يختلف تصريح وزير الخارجية التركي وما أحاق به من أحداث وتفاصيل وكذلك تعديلاته، عن أي من الفخاخ التي نتحدث عنها، لكن خصوصية الحدث هنا، تأتي من آثاره اللاحقة، فأصحاب القضية الذين مضوا في ثورة غير مسبوقة، لن يبلعوا ببساطة هذه اللقمة الكبيرة الجافة التي يجبرون فيها على "الصلح"، الذي صارت معانيه السياسية هنا، أكبر من طقوس إصلاح ذات البين بين أخين أو جارين أو طالبين يجلسان في مقعد واحد.

إنه في التصور السياسي سلسلة من الإجراءات المرتبطة بقرارات دولية، ومسارات يجب المضي فيها كي يجد الصلح له مطرحاً في الحكاية المزمنة.

يشعر الثائرون على الأرض بأن الذهاب إلى هذا الخيار هو إلباسهم بطريقة قسرية ثوب المهزومين، وهم غير ذلك.

لكن المسألة هنا تتجاوز الجانب النفسي عند من دفعوا كل تلك الأثمان، ثم جاء أحد ما ليعرض عليهم مقابلاً أقل بكثير مما يعتقدون أنهم يستحقون.

إن عنوان الرفض في حالتنا هو النتائج التي سيتم اتخاذها في حال مضينا في خيار "الصلح" بين المعارضة وبين النظام، إذ سيشعر السوريون بأنهم سيزدادون تغرباً عن المسار الأول الذي مضت فيه ثورتهم؛ أي كونها ثورة شعب، ضد نظام مستبد جائر، وأن ثمة طبقة نشأت فوق تضحياتهم صار اسمها "المعارضة" ستذهب بإرادتها إلى ما يريده جاويش أوغل، أو ستضطر لفعل ذلك بعد أن أمسى جزء منها مرتهناً لتركيا، بينما ترتهن بعض الأجزاء الأخرى لقوى إقليمية ودولية أخرى!

لا يوجد ثقة بين الثائرين على الأرض وبين هياكل المعارضة، كما هي المسافة البعيدة غير القابلة للتعمية بين الناس في "المحرر" وبين حملة السلاح باسم الثورة!

هذا ليس بجديد، وهو غير مبني على افتراضات مسبقة بل هو واقع حال يجب ألا ينكره أحد، وقد يحدث فعلياً أن تجد في قبعة الساحر المليئة بأرانب سياسية أو عسكرية، من هو مستعد للمضي أبعد مما تحدث عنه وزير الخارجية التركي، إلى درجة الانبطاح أمام أول إشارة -لم ولن تأت- من قصر المهاجرين، توحي بإمكانية الحوار مع جهة معارضة.

لا يوجد ثقة بين الثائرين على الأرض وبين هياكل المعارضة، كما هي المسافة البعيدة غير القابلة للتعمية بين الناس في "المحرر" وبين حملة السلاح باسم الثورة!

لقد تقبّل السوريون هذا الواقع لسنوات طويلة، لا لشيء سوى أن الآفاق المسدودة، تزداد صلابة، مع تغيرات الواقع، ونشوء أزمات إقليمية وعالمية جديدة، تدفع بقضيتهم إلى آخر الاهتمامات، مع وجود تنميط راسخ مفاده بأن الحالة السورية معقدة وغير قابلة للحل، مع وجود أصابع كثيرة في الملف، الأمر الذي يؤدي في المحصلة إلى نسيانهم وحجرهم، كي لا تتسرب مشكلاتهم صوب الخارج!

الرؤية التركية، التي باتت تتضح دون مواربة، والمبنية على براغماتية متأصلة في نهج النظام السياسي الحاكم، لا ترى أفقاً في ظل كل ما سبق، طالما أنها تلمس عدم رغبة أي من القوى الدولية في إحداث أي اختراق في الملف، ومع وجود ضغوطات يعرفها الجميع، كالوضع الداخلي المأزوم اقتصادياً، والضغط الذي يعتقد بعض الأتراك بأنهم يخضعون له بسبب العدد الكبير للاجئين السوريين على الأراضي التركية، مع خطورة أن يترجم هذا الاستياء إلى أوراق مؤثرة في الانتخابات القادمة العام المقبل.

قد يقول قائل ينتمي إلى عالم الأرقام والحسابات حتى في العواطف والأفكار والمبادئ: لقد قبل السوريون الثائرون خلال عقد كامل بكل الشياطين التي عزفت على إيقاع حلمهم بالإطاحة بالنظام، فسلموها قيادة أدوات ثورتهم ولكنها لم تعطهم سوى المزيد من الخسارات والكوارث، فلماذا يستاؤون من طروحات واضحة غير مواربة تحدث عنها جاويش أوغلو، فلم يخدعهم كما فعل غيره؟! ومن ثم، بماذا يظنون أنهم سيواجهون العالم، في حال صار الأمر واقعاً، وهم المحكومون بواقع جغرافي واقتصادي وعسكري لا يمنحهم الحرية في أي خيار آخر؟!

السوريون يسمعون مثل هذه الأسئلة منذ العام الثاني لثورتهم، والاضطرار والبحث عن حل يجنبهم حمامات الدم، قادهم إلى جنيف، وإلى أستانة، وإلى اللجنة الدستورية، وسياسة "الخطوة مقابل خطوة".

لكن سيل الدم جرى وتدفق كثيراً، وبالتالي، فإن الوضع السكوني الحالي، الذي خف فيه إيقاع الموت، ويتم فرضه بقوة القوى الدولية والإقليمية، يمكن اعتباره جزءاً من نتائج كل ما سبق، فهل سيستمر الوضع هكذا على الأبد؟

يظن الثائرون ومعهم كل الحق أن ما جرى في سوريا لا يمكن أن ينتهي بمثل هذه النهايات، وعلى الجهة المقابلة يغذي النظام لدى مؤيديه فكرة انتصاره، بصناعة المزيد من الأغاني والتطبيل والتزمير، لكنه يبيعهم الوهم على الصعيد الحياتي، إذ يتكشف الانتصار عن كوارث اقتصادية، تعني في بعض تفاصيلها أن المنتصر إعلامياً قد هُزم على أرض الواقع.

كيف يمكن أن نخرج من فخ الاستعصاء الراهن، دون أن نرمي بأنفسنا تحت عنوان المصالحة إلى أحضان المستبد القاتل، الذي لا يرغب أصلاً بشيء سوى بقاء الحال على ما هو عليه؟

هذا سؤال يحتاج لجرأة في اقتراح الإجابات، دون أن يبيع المجيب نفسه والآخرين الأوهام والشعارات.