قضايا المرأة السورية وحقوقها بين الاستثمار بها والرفض لها

2021.11.25 | 05:16 دمشق

121003184854yvsb_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تلعبُ الثورات التي تحدث في مجتمعٍ ما دورًا كبيرًا في تغيير واقعه؛ بل إنّ التغيير هو معيار تحقّق الثورة من عدمه، ولهذا التغيير أثره على البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والممارسات السائدة، إنّ التأمّل في بعض التجارب التي رافقت الثورات أو التحوّلات في بلدانٍ معيّنة؛ يكشف بما لا شكّ فيه عن أدوار كثيرة تنهض بها النساء في القطاعات المختلفة، إنْ بما يتعلّق بحياتهنّ وحياة أسرهنّ، أو مشاركتهنّ في المجال العام؛ إلّا أنّه في بعض الأحيان ولأسبابٍ كثيرة قد لا تُستدام هذه الأدوار في مرحلة النزاع كلّها أو المرحلة التي تليها، وقد تُستدام.

تشير بعض الأمثلة في التاريخ الحديث إلى استدامة التغييرات التي تلت بعض الصراعات، منها على سبيل المثال؛ المشاركة الاقتصاديّة للمرأة في بريطانيا بعد الحرب العالميّة الأولى، حيث تنامى دورها بشكلٍ ملحوظ ومتسارع، إضافةً إلى دخولها مجالات عمل جديدة كانت حكرًا على الرجال فقط، ولعلّ سببًا مؤثّرًا دفع إلى هذا التغيير؛ إذ شغرت كثير من الوظائف في بريطانيا إثر ذهاب كثير من الرجال إلى الحرب.

في مكانٍ آخر كرواندا عام 1994 التي شكّلت فيها النساء قرابة 70% من السكان بعد الإبادة الجماعيّة ومقتل معظم الرجال، وفرار الجناة منهم، نجد نساء رواندا قد تولّين دفّة الأمور في البلاد، واستطعن الإسهام في إعادة بناء مجتمعهنّ المدمّر، والدفع باتّجاه النهضة الاقتصادية لرواندا والتي تزامنت مع نهضة اجتماعية شملت نواحي الحياة الرواندية جميعها؛ لتصبح رواندا واحدة من البلاد التي تملك أسرع الاقتصادات نموًّا في أفريقيا.

حين نمعن النظر في الحالة السوريّة؛ يمكننا ملاحظة دور فاعل للمرأة السوريّة في الثورة منذ انطلاقتها

في المقابل نعثر على أمثلة تاريخيّة تشير إلى انكفاء النساء في الثورات، وعدم استدامة المكتسبات التي تحصّلت النساء عليها في الثورات؛ من ذلك ما حصل في الثورة الفرنسية، فبعد أن تمكّنت الحركة النسائيّة خلال الثورة الفرنسيّة من الحصول على عددٍ من الإصلاحات؛ حيث أُجريت تعديلاتٌ على بعض القوانين المتعلّقة بالمرأة والتي أسهمت في تحسين أوضاع النساء؛ إلّا أنّ تلك المُكتسبات لم يُكتب لها الدوام، حيث جاءت القوانين النابليونيّة لتكتسح كلّ ما أحرزته الحركة النسائيّة في أثناء الثورة.

حين نمعن النظر في الحالة السوريّة؛ يمكننا ملاحظة دور فاعل للمرأة السوريّة في الثورة منذ انطلاقتها، حيث كانت جنبًا إلى جنب مع الرجل في المظاهرات والاعتصامات السلمية، كذلك كان لها مساهمة قوية في التنسيق لفعالياتٍ احتجاجية مختلفة؛ إذ ضمّت العديد من التنسيقيّات ناشطاتٍ في صفوفها بذلن جهدًا إعلاميًّا غير مسبوق، سواء في المشاركة أو من خلال تغطية الأحداث والتواصل مع وسائل الإعلام لنقل حقيقة ما يجري من أحداثٍ على الأرض السورية، والنساء بذلك بذلن ما بوسعهنّ لخدمة الثورة السوريّة، ولم يتوانين عن أي عمل يسهم في انتصارها وتحقيق أهدافها، فكان من المتوقّع أن تلك المشاركات ستنعش الآمال بتغيير حقيقي، ذلك التغيير المنشود الذي طالما ترقّبته النساء السوريات كنتيجة طبيعيّة لمشاركتهنّ في الثورة.

إلّا أنّه وبعد مضيّ وقتٍ ليس بالقصير من عمر الثورة، لم تأتِ تلك النتائج المنصفة لدور المرأة والمرضية لطموحها، وعلى الرغم من الخيبة والصعوبات والتحديّات التي واجهت النساء السوريّات بقين مصرّات على مواصلة الثورة، ومواجهة التعقيدات المستجدّة التي فرضتها التحوّلات؛ فتحوّل الثورة نحو العسكرة، لم يعنِ بحالٍ من الأحوال انكفاء المرأة، بل هو تحوّل في طبيعة دورها، ما دفع بعضهنّ لتحويل إسهاماتهنّ إلى مجالات أخرى موازية؛ كالطبابة والإغاثة فضلًا عن نهوضهنّ بأعباء الحياة اليوميّة لعوائلهنّ في ظلّ الحصار وشحّ الموارد أو انعدامها في بعض الأحيان، وغياب الرجال في المعتقلات أو انشغالهم بالقتال واستشهاد العديد منهم.

ما يحدث في الحروب يلقي بكاهله عادة على النساء والأطفال بالدرجة الأولى؛ ممّا يجعلهم يدفعون الثمن الأكثر فداحةً، فكثيرًا ما وجدت نساء ـ ودون مقدّمات ـ أنفسهنّ مع أطفالهنّ فجأةً في مهبّ النزوح أو اللجوء دون معيل أو أيّ موردٍ للعيش في ظروف قاسية؛ لا تقتصر على سوء الأوضاع المعيشيّة والصحيّة، بل قد تتجاوزها إلى أشكالٍ أخرى من الاستغلال؛ بدءًا بالعمالة الرخيصة ووصولًا إلى الاستغلال الجنسي.

في محاولةٍ للتخفيف من قسوة الحرب وآثارها على حياة النساء السوريّات؛ تحاول بعض المنظّمات النسويّة وغير النسويّة بين الحين والآخر إطلاق مبادرات تستهدف من خلالها دعم النساء المتضرّرات، لكنّ تلك المبادرات لا تفتأ تصطدم في كثيرٍ من الأحيان بواقع السّلطة الذكوريّة المتشدّدة والرافضة لهذا النوع من المبادرات تحت حجج وذرائع شتى، تنصرف في كثيرٍ من الأحيان إلى الشكليّات ولا تلقي كثير بالٍ لمضمون المبادرة بحدّ ذاتها.

تركّز معظم تلك المبادرات على ضرورة تأهيل المرأة وتمكينها وإشراكها في صنع السلام، أو المشاركة في صنع القرار؛ لتواجه تلك المبادرات هجومًا عنيفًا من بعض الفئات التي تناصب أيّ مبادرةٍ من هذا النوع العداء، دون الاهتمام بمضمون المبادرة والغاية منها؛ حيث تجمع معظم الانتقادات لتلك المبادرات على أن الغاية الوحيدة من فعاليّاتٍ كهذه هي إغراء المرأة السوريّة بالتمرّد على محيطها الاجتماعيّ والخروج على التقاليد.

 يتساءل بعض المنتقدين لإحدى المبادرات عن السبب في كون جميع الحاضرات محجّبات ومنتقبات وإن كنّ يمثّلن النساء السوريات أم لا، ويتساءل آخرون في موضع آخر عن السبب الذي يدفع إحدى الناشطات إلى وضع الحجاب في أثناء زيارةٍ لها إلى الشمال السوريّ؛ على الرّغم من كونها لا ترتدي الحجاب بالأصل، وكان الجدل حول الحجاب الذي وضعته السيّدة والغاية منه ونحو ذلك من الانتقادات الشكليّة طاغيًا على مضمون مبادرة تلك السيّدة (كما صرّحت هي لإحدى وسائل الإعلام التي أعطت الأولوية للجدل المُثار حول حجابها أيضًا).

يبدو أنّ قضيّة المرأة وحقوقها ستبقى مجرّد ساحة للتجاذبات والجدل؛ شأنها شأن معظم القضايا السوريّة

لا نعرف ما هو الضير في أن تتلقى النساء الدعم والتدريب اللازم لتأهيلها وتمكينها؛ خصوصًا أنّ الطرف الأكثر تضرّرًا في أي حرب هو النساء والأطفال، وهؤلاء النسوة معظمهن لديهن أسر ويدعمن عوائلهنّ، وأي دعم لهن هو دعم لأسرة بكاملها وتمكينٌ لها، الغريب أكثر أنه بعد ما قدّمته النساء السوريات من تضحيات ومشاركات فعّالة في الثورة يطلب منها اليوم أن تتوارى عن المشهد تحت حجج وذرائع تدور معظمها في فلك الخوف على نسيج العائلة السوريّة والمجتمع من تمرّد النساء وخروجهنّ على التقاليد.

من الأسباب الأخرى التي تقف خلف الانتقاد لهذه المبادرات؛ هو اعتقاد بعض الأشخاص أنّ الجهات الداعمة تبالغ في دعم المبادرات التي تشارك النساء فيها، وأنّ أيّ مبادرة تتوسّل بمشاركة النساء فيها، تلقى اهتمامًا أكبر وذلك على حساب قضايا أكثر إلحاحًا وينبغي أن تكون الأولوية لها على حدّ تعبيرهم.

يبدو أنّ قضيّة المرأة وحقوقها ستبقى مجرّد ساحة للتجاذبات والجدل؛ شأنها شأن معظم القضايا السوريّة، تلك التجاذبات التي تجنح غالبًا إلى المزايدات أو الاستثمار غير الرشيد في قضايا المرأة وحقوقها، وكما هو معروف، فإن كل نبتٍ غير حقيقي لا يمكن أن يثمر، وإن بدت هيئته للرائي مثقلة بالثمار.

أصدرت الأمم المتّحدة فيما مضى القرار (1523) عام 2000، وقد تضمّن القرار الاعتراف بأن النساء هن ضحايا الحروب والتوترات والنزاعات، وتبعًا لذلك فهن صاحبات مصلحة في أن يتحولن إلى فاعلات في إحلال السلام والتأثير وإشراكهن في فضّ الصراعات وفي عملية صنع القرار وحمايتهن من خلال تمكينهن وإدماجهن في التدريب وحفظ السلام.

إن المنطق يحتّم أن تُفرد للنساء السوريّات مساحة تليق بتضحياتهن من أجل المشاركة في صنع السلام والاستقرار بدءاً من الأسرة، ووصولاً إلى المجتمع ومؤسساته المختلفة، وهذا لن يتحقّق إلّا بالإصرار على تمثيل المرأة ودعمها وإشراكها بشكلٍ حقيقيّ في شتّى مراكز صنع القرار.