قراءة في تصاعد اليمين والتطرف

2021.08.14 | 05:08 دمشق

87_564229422.jpg
+A
حجم الخط
-A

الشعور بالانكسار أمر معروف عند المحتاجين والضعفاء الذين يهربون من أوطانهم للبحث عن الأمان والرزق صوب الدول المتقدمة أو الأكثر أمناً، ولا يمكن لوم شعوب الدول المستقبلة واتهامها بالعنصرية، وهي تنظر إلى اللاجئين إليها على أنهم عالة عليهم بجميع المستويات وفي جميع الأصعدة، فاللاجئ لا يشبه المواطن إلا بالشكل وشيء من الإنسانية، وهو المختلف في اللغة والعادات والتقاليد وربما في المعتقد أيضا، وبالمستوى الاجتماعي والعلمي إلى حد ما.

فمن انتقل للعيش في مجتمعات مختلفة، كان يملك تصوراً ذهنياً عنهم، وتركيا كمثال كان لها تاريخ مباشر مع بلادنا في فترة من التاريخ، فالأتراك والعرب يتجاهلون مئات السنين من العيش تحت ظل الإمبراطورية العثمانية، ويكون التركيز وينحصر التقييم خلال المراحل الأخيرة التي تسبق فك الارتباط لتبرير النتيجة التي خلص إليها الواقع الجديد.

لأن السلطة الجديدة تحتاج لتأييد وقبول شعبي، ولتبرير واقع جديد، لا يتمتع بالرضا الشعبي الكامل، ولا يرتاح لنتائجه الغالبية، عبر بث الأكاذيب والشائعات، وهذا ليس تكذيباً بالمطلق لوجود أخطاء ومظالم وقعت، لكن التهويل واستخدام ما يخدم مصلحة السلطة الجديدة يكشفه التاريخ فيما بعد.

فشائعات حكام تركيا الجدد أذاعوا عن العرب الخيانة والتعاون مع الإنجليز ضدهم، وكذلك كان الرد من الحكومات العربية حول ظلم العثمانيين وتجاهلهم وتجهيلهم وسرقة أرزاقهم.

وما زلنا بعد أكثر من مئة عام نعاني من إعلام الطرفين ومناهجهم الدراسية بما يثبت تلك الفكرة ويثبتها في العقول والوجدان.

المجتمعات لا يمكن ضبطها على إيقاع معين وسوية واحدة، فعدم تقبل الآخر موجود في كل المجتمعات الإنسانية بنسب مختلفة، والممارسات العنصرية موجودة حتى في المجتمع الواحد

وليس في الأفق حل منظور بتغيير هذه الفكرة إلا من خلال المعاملة، وتغيير الصورة النمطية في عقولنا، بأن نكون رسلاً للإنسانية، ونموذجاً للرقي والحضارة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا والتخلص من البعثي الصغير في عقولنا جميعا.

ثم إن الواقعية من الإنصاف، فالمجتمعات لا يمكن ضبطها على إيقاع معين وسوية واحدة، فعدم تقبل الآخر موجود في كل المجتمعات الإنسانية بنسب مختلفة، والممارسات العنصرية موجودة حتى في المجتمع الواحد تضيق أو تتسع حسب مؤشر العدالة واحترام القانون من جهة ومن جهة أخرى بحسب رفع قيمة الأمن المجتمعي وقيم الأخلاق الإنسانية.

فالمجتمعات المستقرة سياسياً واقتصادياً ستعكس بيئة مستقرة متناغمة مع البيئة السياسية التي تحمي مصالحها وتحفظ حقوقها وتضمن أمنها بكل المستويات.

الوعي السائد لدى الشعوب من البدهي أن يتغير ويختلف أسلوبه وتعاطيه باختلاف الظروف، وهذا أمر يتفق مع المنطق البشري بتعدد ثقافاته وأمكنته وأزمنته.

إذاً هي معادلة منطقية ومنصفة إلى حد ما، طالما محور ذلك ضمن الصراع السياسي السلمي في التغيير.

وبقدر قرب المنظومة السياسية من الشعوب يكون الامتنان حاضرا من شعوبها، وبقدر الابتعاد يكون الانفلات والجفاء.

ثم إن بلوغ هذه الدول مستويات عالية من التقدم العلمي والعلمانية السياسية لا شك بأنها أتاحت فرصاً كثيرة للطامعين بالعدالة والإنسانية، وللهاربين من أنظمة الاستبداد في تحقيق جزء كبير من العدالة معهم تحت سقف دستور هذه الدول وقوانينها.

لكن في المقابل لا يمكن تحقيق اندماجين مختلفين بشكل كامل حتى لو تخلى أحدهما عن جميع العادات وكل القيم والمعتقدات التي يؤمن بها.

أعلم أن ثمة من سيواجه ادعائي بالاستياء والنقد ومبررهم الحاضر بأنهم عاشوا سنوات طويلة من حياتهم في هذه البلدان ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة.

لكن المشكلة حين نتغافل عن الحقيقة عندما نحظى بجزء كبير من الحقوق والكرامة، وهو ما نناضل لنيله في أوطاننا مع تضحيات عظيمة وقليل من أمل.

 فالمعادلة هنا وإن كانت صحيحة، لكنها لا تعني أبداً أننا على حق، وادعاؤنا هذا سيسقط أمام أول تجربة حقيقية وحينذاك لن تكون الجنسية التي يتباهى بها موضع تساوٍ مع المواطن الأصيل، وستبقى أجنبياً غريباً من الدرجة الثانية أوالثالثة، وكل محاولاتك في التخلي عن العقيدة والنكران للقومية سيضيع هباءً.

الانقلاب والاصطفاف وصب الغضب تجاه ما تخلى عنه وتبرأ منه، وغض الطرف عن عنصرية الغرب ودعاواه الإنسانية بحق شعوب هم أكبر المساهمين في تمزيقهم ونهبهم.

فهذا المسكين لا يرى أكثر من مصالحه وما يدور في فلكه، ولا يعنيه ما يعانيه أبناء وطنه إلا من بعيد، بعيدا عنه وعن مكتسباته، أوربما وجه لهم التهم، لاعتقاده أن من لجأ حديثا سيشاركه هذه المكتسبات أو سيكون حملاً ثقيلاً ينغص عليه راحته.

ولذلك نلاحظ أن من المهاجرين السابقين من عارض وصوت ضد استقبال المهاجرين الهاربين من ويلات الحرب بحثا عن الأمان.

هذا الضعف وهذا الخوف تمكن من رؤوسنا وضيق على أرواحنا إلى درجة جعلنا نخشى من أي خبر يظهر على الإعلام فيه اتهام للاجئين بجنحة أو جريمة خشية ردات الفعل، ونتنفس الصعداء حين لا يطول جنسيتنا أوديننا.

هو شعور بالنقص بلا شك من جهة ومن جهة أخرى هناك حالة عدم اطمئنان لقوانين هذه الدول، والأنكى حين نبرر الحالات العنصرية على مستوى الشعب بأنها فردية مهما تعددت وكثرت ومهما سببت ومهما بلغت، فالدار دارهم كما يقول كثيرون، ولا شك بأن السبب يكمن في خلل بنا نحن لا بهم.

الجدال في هذه المسألة سيدخلنا في تفاصيل كثيرة، والفصل بأن يكون القانون فوق الجميع دون تمييز بين مواطن ومهاجر، لا على أساس الدين أو العرق أو اللون.

ففاعل الجرم لا يدان معه اعتقاده ولا عرقه، والإشارة إلى الخلفيات القومية والدينية والعرقية هي دعاوى واضحة في إثارة النعرات والتحريض بما يخالف القانون الدولي والإنساني.

ألا يبدو أحيانا أن هذه الدول مستاءة من نظامها العلماني والقوانين التي أقرتها؟ ولعلنا نتساءل بلا تعميم، لكن لا يمكن أن نستهين بصعود اليمين في أوروبا وتصاعد العقلية المناهضة للتعايش مع الآخرين، المختلفين عنهم في الأعراق والمعتقدات خلف تسميات وطنية، كالجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبن في فرنسا، وأخرى ديمقراطية كحزب الوسط الديمقراطي في سويسرا، وحركة بيغيدا في ألمانيا، والملاحظ بأن خطاب هذه الحركات والأحزاب يتمحور حول دعاوى متشابهة تتلخص في التمسك بالمسيحية ومحاربة الوجود الإسلامي واليهودي في القارة الأوروبية، وإذكاء الروح الوطنية الأوروبية في رفض أي قومية يعتقدون بأنها مغايرة عنهم ولا تنتمي إليهم.

والمهاجرون والمندمجون في هذه البلاد يقرون بخطر تصاعد اليمين المتطرف، لكن الغريب بأن صراخهم موجه للمهاجرين الجدد، ولأبناء أوطانهم ويعزون هذا التطرف للعرب وللمسلمين، بل للإسلام نفسه إذا أردنا أن نتكلم بلا مواربة.

بالمناسبة: لا أدعو هنا لمحاسبة الغرب على فظائعه التاريخية في منطقتنا ولا على مجازره الدموية بحق آلاف مؤلفة من الرافضين لاحتلال أرضهم، ولا على استنزاف ونهب ثرواتهم وخيراتهم، ولا على عملائهم ووكلائهم الذين يحكمون البلاد بقوة السلاح، والاستبداد بدعم دولي.

لكن أدعوه أن يكف يده عن دعم الدكتاتوريات في بلادنا، أن يكون لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا عن أرضنا وأعراضنا، أن لا يتهمنا بالتخلف حين نرفع يدنا لرد صفعة الظالم عن وجوهنا، أو بالعشوائية حين نصرخ ونحن نعلنها انتفاضة في وجه الأنظمة وأجهزتهم الأمنية، أو بالإرهاب حين أطلق رصاصة لصد الدبابات الحديثة وقصف الطائرات للحجر والبشر.

أن يتجرأ على مواجهة المعطلين للقرارات الدولية والأممية التي تقضي بمحاسبة مجرمي الحرب وحماية المدنيين من المحارق اليومية من حلفاء الشر وتجار السلاح، ومواجهة المتورطين الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن صناعة داعش والمنظمات الإرهابية ولو لمرة واحدة.

ما حجة عودة اليمين وما معنى تصاعده في بيئة من الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي

ليست مجرد أزمة ديمقراطية يواجهها الغرب، بل هي أزمة تلبيس الصراع الديني والحضاري بلبوس العلمانية والديمقراطية الهش والذي يتكشف عند أول زوبعة مظهراً ما تحته من عورات.

للتأكيد ليس القصد المقارنة بين الغرب والشرق، لكن للإشارة: إلى أن اليمين والتطرف في الشرق  له أسباب لنشأته ولوجوده كردة فعل مناهضة للاستبداد والظلم والتضييق على الحريات، ولا نبرره.

أما الغرب فما حجة عودة اليمين وما معنى تصاعده في بيئة من الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي؟

المعضلة تكمن في الضعف الذي نسلم لحقيقة تمكنه من أوطاننا ونفوسنا، والوهن والعجز الذي سكّر أبصارنا وأصم آذاننا وشل عقولنا، أمام إمبراطوريات إعلامية تفرض رؤيتها وتبث رسائلها بلا توقف، وإغراءات مادية للمغفل والرخيص ليكون أداة لينة عابثة بيد من يحركه، أما العلماء والمثقفون فإما مهجرون هاربون من سطوة الاستبداد أو تحت قبة السلطان ورحمة السجان.

ولا شك أن هذا ليس بعذر وإن كان حقيقة، فالتغيير ممكن تحت أي ظرف وتحت أي سطوة، ولعل الثورات هي نهاية لخوف ما قبل المعركة من الطغاة والاستبداد والترهيب، وبداية لخوف آخر. خوف مختلف تدور رحاه في وسط المعركة علينا أن نستثمره في رص الصفوف وتصحيح الأخطاء والإعداد الجيد، وإن كان يتطلب جهدا أكثر وثمنا أكبر، فالحرية ثمنها غال جدا جدا.

وختاما: لا ندعي أننا في أحسن حال أبداً، بل نقرُّ بأننا في أزمة عميقة بحجم الاستبداد، مزمنة بقدر ارتباط مصائرنا بثلة حاكمة طاغية، ونعاني الجهل بقدر فقرنا. نعترف بأننا المصابون بالريبة، وكثيرٍ من أمل بلا فعل حقيقي مسؤول.

لكننا نستحق التغيير، ويحق لنا أن ننهض، أن نقول كلمتنا وأن نلحق بركب العالم.