قراءة في أول انتخابات برلمانية سورية بعد الاستقلال

2022.11.01 | 07:07 دمشق

هاشم الأتاسي يلقي خطاب القسم بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية في 21 ديسمبر 1936.
+A
حجم الخط
-A

في عام 1947 جرت أول انتخابات برلمانية في سوريا بعد الاستقلال، وجرت يومها وفق الدستور السوري الذي وضع عام 1930، والذي حصر حق الانتخاب بالذكور الذين تزيد أعمارهم على العشرين، إذ أن دستور 1930 لم يكن قد أعطى المرأة حق التصويت، وكان النظام الانتخابي يتم على مرحلتين أو درجتين كما يقال أحياناً، حيث يقوم المواطنون في المرحلة الأولى بانتخاب من يطلق عليهم اسم "الناخبين الثانويين"، وهم يمثلون دوائر صغيرة تمثل الأحياء في المدن ذات التجمعات السكانية الكبيرة، والقرى ذات عدد السكان القليل، وفي المرحلة الثانية، يقوم الناخبون الثانويون باختيار ممثليهم في مجلس النواب.

بعد استقلال سوريا 1946، طرح موضوع تعديل النظام الانتخابي، وطرحت قضية الانتخاب المباشر، أي إلغاء مرحلة الناخبين الثانويين، وكان "رشدي كيخيا"، وهو أحد مؤسسي "حزب الشعب"، هو من تقدم بهذا الاقتراح إلى الحكومة، والتي كان يرأسها "جميل مردم بك"، وافقت الحكومة على الاقتراح، ثم أحالته إلى البرلمان لإقراره.

في نهاية 1946، عقد البرلمان دورة اجتماعاته العادية، وكان بأغلبيته ميالاً إلى رفض الاقتراح، واقترح بعض أعضائه زيادة عدد الناخبين الثانويين بدلاً من إلغاء الانتخاب بمرحلتين، واختتمت الدورة دون التوصل إلى قرار نهائي بخصوص نظام الانتخابات، وفي شهر نيسان 1947، دُعي البرلمان لدورة استثنائية لمناقشة النظام الانتخابي، وكان "الحزب الوطني" ميالاً للإبقاء على نظام المرحلتين، لكن المظاهرات الحاشدة التي اندلعت في دمشق، والتي كان طلاب المدارس والجامعات السورية عمادها الأساسي، وشاركت فيها مدن أخرى، تخلّلها إضراب مدني في أغلب المدن الكبرى، كدمشق وحمص وحماة وحلب، وساندته عدد من النقابات العمالية، وكذلك الاتحاد النسائي العام، الذي كان يسعى من خلال مشاركته في المظاهرات والإضراب إلى منح المرأة حق التصويت، أرغم مجلس النواب على إقرار قانون الانتخاب، الذي ينصّ على الاقتراع المباشر، لكنه لم يقر حق المرأة في التصويت.

في تلك المظاهرات والإضرابات، وبضغط مباشر من الشارع، تم إقرار نظام الانتخاب المباشر، لكن ماهو جدير بالاهتمام أيضاً، هو نجاح الضغط الذي فرضته المظاهرات الشعبيه في تمرير تعديل مهم آخر، وهو إلغاء صيغة الحصص الطائفية لمقاعد البرلمان، وإن لم يكن بشكل كامل، ففي 4 من حزيران 1947م، أصدر الرئيس "شكري القوتلي" مرسوماً يقضي بزيادة عدد المقاعد البرلمانية إلى 140 مقعداً، بدلاً من 135 موزعة على النحو التالي: السنّة 94، المسيحيون 15، العلويون 11، الدروز 5، الإسماعيليون 1، اليهود 1، مقاعد أقلوية غير مخصصة الطائفة 3، بدو 10، لكن التظاهرات التي اندلعت قبيل موعد الانتخابات النيابية، دفعت "القوتلي" لإصدار مرسوم جديد، حدّد به عدد المقاعد بـ 136 مقعداً، وألغيت المحاصصة الطائفية بين المسلمين، مع الحفاظ على مقاعد «لغير المسلمين» وحددت بـ 19 مقعداً، وتشمل اليهود والمسيحيين السوريين إلى جانب مقاعد البدو العشرة، وقد تم الحفاظ على مقاعد غير المسلمين والبدو على هذه الشاكلة، حتى نهاية عهد الجمهورية الأولى.

أوردت هذه المعلومات كمقدمة للحديث عن بدايات الحراك السياسي الذي كانت تعيشه سوريا بعد الاستقلال مباشرة، والذي يمكننا دراسته اليوم والاستفادة منه في فهم المجتمع السوري إلى حد كبير، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحراك السياسي لم يولد بعد الاستقلال بالتأكيد، وصاغ ربع قرن من الاحتلال الفرنسي روحه، ومعظم قياداته وتوجهاته السياسية، ومع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً، الفارق الزمني البعيد، والمتغيرات الكبيرة التي طرأت محلياً، وإقليمياً ودولياً.

من يتفحص النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات، يمكنه أن يستنتج أن السوريين لم ينتخبوا كتابعين لهذا الزعيم أو المنطقة أو الطائفة، وإنما انتخبوا بوعي، وبقدرة على فهم تباينات البرامج السياسية

لا شك أن انتخابات عام 1947، كانت حدثاً مهماً، ليس لأنها الانتخابات البرلمانيه الأولى التي جرت بعد الاستقلال التام عن فرنسا فقط، بل لأن الظروف التي تمت فيها تلك الانتخابات، والاهتمام الجماهيري الكبير بها، والتحالفات السياسيه التي تمت خلالها، إنما كانت مؤشراً بالغ الدلالة على حيويه المجتمع السوري وقتذاك، وعلى أحلام السوريين وتطلعهم إلى بناء حياة سياسيه على أسس سليمة وروح تنافسيه يؤطرها القانون والدستور، وهو ما تم تقويضه بعد ذلك -مع الأسف- من خلال طاعون الانقلابات العسكرية.

من أسهم في سلسلة الانقلابات العسكرية التي افتتحها حسني الزعيم في سوريا، ما تزال حتى اليوم، لم يكن طموح "العسكر"، وهوسهم بالسلطة فقط، بل ربما يعود في أساسه إلى حماقة الطبقة السياسية، وعدم تنبه معظم قياداتها إلى خطورة الاستقواء بالقوة والجيش، إذ أن معظم الانقلابات كانت تتم بمباركة من هذا الطرف السياسي أو ذاك، لا بل ربما بالتواطؤ معه، هذا التساهل في نسف اللعبة الديمقراطية، والقبول بتدخل "العسكر" فيها ونسفها، أسس لثقافة القوة في السياسة، وكرّس فيما بعد استهتار العسكر بالقانون وبالدستور، وبالسياسة وبالمجتمع.

في تلك الانتخابات – 1947- ظهر مؤشر مهم جداً، وهو أن نسبه الاقتراع وصلت في دمشق إلى نحو 60%، وهي نسبة لها دلالاتها في إيضاح مدى انخراط المجتمع في الحياة السياسية، ووعيه لأهمية الصراع السياسي ضمن الأطر القانونية والدستورية، كما أن نتائج تلك الانتخابات كانت لها مؤشراتها المهمة أيضاً، ومن يتفحص النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات، يمكنه أن يستنتج أن السوريين لم ينتخبوا كتابعين لهذا الزعيم أو المنطقة أو الطائفة، وإنما انتخبوا بوعي، وبقدرة على فهم تباينات البرامج السياسية، الأمر الذي يشير إلى أن حراكاً سياسياً حقيقياً، بدأ يتبلور داخل شرائح المجتمع السوري، وهذا ما نلمسه في نتائج الانتخابات التي جاءت لمصلحة فئات المستقلين، لا سيما وأن الأطر السياسية الجديدة من أحزاب وتيارات لم تتبلور بعد، "فالحزب الوطني" الذي كان يحصل عادة على أغلبية مريحة في الانتخابات السابقة، والذي ارتبط اسمه بأسماء شخصيات برزت خلال فترة الاحتلال، ولعبت دوراً مهماً في معركة الاستقلال، لم يحصل سوى على 24 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغة 136 مقعداً، كمان أن "حزب الشعب" لم يحصل سوى على 20 مقعداً، في حين ذهبت المقاعد والباقية وعددها 92 مقعداً إلى مستقلين، وإن كان عدد من هؤلاء المستقلين هم في الأصل من كانوا ينتمون إلى هذين الحزبين، إلا أن خوضهم الانتخابات، وفوزهم بها كمستقلين، يدل على أن تغيرات جوهرية كانت قد بدأت تطول الطبقة السياسية التقليدية.

أخيراً، من المؤشرات المهمة في تلك الانتخابات، هو عجز حركة الإخوان المسلمين عن دخول البرلمان، ولو بمقعد واحد، على الرغم من أنها تحالفت مع بعض الأحزاب والتيارات السياسية، وفشل مرشحها في حلب "معروف الدواليبي" في الفوز في تلك الانتخابات، وهذا يدل على أن ما يقال عن تقليدية المجتمع السوري، وهيمنة المؤسسة الدينية عليه، لم يكن صحيحاً، وإن حرية حقيقية تسود حياة هذا المجتمع، قد تخرجه من الاصطفافات الدينية والمذهبية.