قراءة في أدبيات الزلزال

2023.02.27 | 06:17 دمشق

حلب
+A
حجم الخط
-A

بعد ثلاثة أسابيع على الكارثة التي ضربت الجنوب التركي ومناطق من سوريا يكاد القول حولها أن ينفضّ، بعد أن شغلت أخبار الزلزال والكتابة عنه وسائل الإعلام في البلدين. تهدف الأسطر القادمة إلى التأمل في الأفكار التي طُرِحت بمواكبة هذا الحدث الجلل منذ وقوعه فبدء عمليات الإنقاذ والإغاثة والإيواء في المجال السوري، ولا سيما الخطاب المعارض كما تجلى في مقالات ولقاءات متلفزة ومنشورات جادة على وسائل التواصل.

من الطبيعي أن يتشابه بعض ما قيل هنا مع جزء مما قيل في ضفة مناطق النظام، لكن القدرة الفردية المحدودة على الرصد تدفع إلى التأكيد على أن موضوع هذه القراءة هو خطاب كتّاب ومعلّقين وصانعي رأي منحازين إلى الثورة، وفق استطاعة كاتب هذه السطور على المتابعة، «مما سمع وقرأ وشاهد» من الأفكار التي ربما تمحورت في ما يلي:

استعادة الوحدة الوطنية

استنفرت الكارثة حميّة عابرة للمناطق وللحدود بين سوريين، مما أغرى متابعين بالقول إنها وحّدت السكان من جديد حول المصاب العمومي بغض النظر عن أي انتماء سياسي. والحال أن شبكات التضامن التي سرى التيار في محطاتها وأسلاكها ظلت منفصلة على فالق الأراضي المحرّرة ومناطق النظام بشكل أساسي. وبما أن الأضرار في هذه الأخيرة تركزت في محافظة اللاذقية، ثم في حلب وحماة على الترتيب؛ فقد تلقت مناطق الساحل الحصة الأوفر من دعم «الدولة» السورية وأنصارها من مختلف الأنحاء داخل البلاد وحيث تجمعهم جاليات قوية موالية للأسد في دول صديقة له أو غربية. صحيح أن بعض مؤيدي النظام والرماديين ذكروا إدلب ضمن المناطق المنكوبة، لأسباب دعائية تخصهم على الأرجح، لكنهم لم يفعلوا تجاهها شيئاً يُذكر. كما أن بعضهم حرص على إيضاح أن تعاطفه يشمل الأطفال والمدنيين الموجودين هناك بحكم الأمر الواقع، وتمييزهم عن القوى العسكرية وأجهزة الحكم والمؤسسات البديلة.

وفي المقابل انشغلت طواقم المناطق المحرّرة، ومؤيدوها خارج البلاد، بحشد الدعم لمصابها الذي كان أشد إيلاماً مما حصل عند النظام وبإمكانات أقل. نعم جرى ذكر حلب واللاذقية في خطاب البعض على وجه الإجمال، لكن أشد المتفائلين انفعالاً يجب ألا يأمل الآن في تعاطف جمهور الثورة الكليم مع القرى المتضررة في ريف جبلة. فقد خلّفت السنوات العشر الماضية شقاقاً عميقاً لا يردمه زلزال.

الشعب الأسطوري

بالتوازي مع صورة سوريا الموحدة شعورياً ظهر خطاب يُعلي من شأن السوريين، وخاصة منهم سكان الشمال، الذين نهضوا أحياء من تحت الركام مثل طائر الفينيق، ليسهموا بقدرة «استثنائية» في أعمال الحفر وتقديم المساعدات. وقد أضفى الإنشاء السهل على هؤلاء صفات فوق بشرية لم تلبث أن اتصلت بعُظام لا ينفك يمد رأسه في كل مناسبة، وكأن أي شعب في العالم لن يبادر إلى البحث عن أحبائه من تحت الأنقاض، أو أن عشرات المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية تتبرع بما لا يدخل في نطاق تعريفها لنفسها ورسالتها وعملها أصلاً.

لا شك أن المرء يستحق التقدير لقيامه بواجبه، خاصة مع شحّ الإمكانات، لكن تحويل الشكر الواجب إلى أهازيج شعرية ليس ضخاً حصيفاً في عروق شعب عليه أن يعي الكثير من عيوبه أولاً، قبل أن ينال التصفيق على أسابيع من النبل.

طبقات المظلومية

المظلومية هي الوجه المقلوب للعظمة. ويتوافر هذان الشعوران بكثافة في النفس السورية، خاصة الثورية منها، في السنوات العشر الأخيرة. وأينما مددت يدك ستعثر على نماذج من خطاب المظلومية بطبقاته التي تبدأ من أعلى؛ فالسوريون أسرى لعنة التاريخ أو السياسة، والموت يطاردهم على وجه الخصوص، والقدر لم يشبع من دمهم سواء بالقتل أو بالقصف أو بالغرق في مجلس عزاء مستمر. فها هي قبورهم تملأ الرحب، وها هو الزلزال يلاحقهم إلى المدن التركية التي لجؤوا إليها فلاقوا حتوفهم في أنطاكيا ومرعش وسواها، وعادوا بالتوابيت على طرق تلكأت المساعدات الدولية أياماً عن عبورها، في مرافعة معتادة تجاه العالم «العاهر» وأممه «المنافقة». وفي حين يجري تناقل أي معالم عنصرية تركية على نطاق سوري واسع فإن الأخبار المضادة لا تحظى بالقدر نفسه من الرواج لأنها لا تحفز المظلومية.

من سرق المساعدات؟

لاحظ جميع المتابعين ارتفاع سوية التشكيك والاتهام، اللذين صارا معتادين مع الأسف، إلى درجات ملتهبة غير مسبوقة مع زيادة حاجة الناس إلى المساعدات بأنواعها. وقد حصل هذا في الصفيحتين السوريتين اللتين ضربهما الزلزال؛ ففي مناطق النظام جرى التشكيك في نزاهته أولاً، ثم في ذمة جميع الفاعلين المحليين من مجموعات ومخاتير ووجهاء ومشايخ. وفي الشمال لم تنجُ تقريباً إلا منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، على حنق من الذين يرغبون في تحطيم كل شيء وتلطيخه بالسواد.

وذلك على الرغم من تناقض هذا التعميم بشكل صارخ مع كل ما سبق من أنفة السوري وتفوقه المفترض على العالمين. دون أن ينتبه المتنقلون بين الخطابات الانفعالية إلى استحالة القول بتميز شعب أنجب كل هذا العدد من اللصوص؛ سواء في منظمات الإغاثة أو من مديري المخيمات أو من أعداد لا تحصى من «ضعاف النفوس» من الذين استغلوا الوضع فسارعوا إلى استلام المعونات مراراً وبيعها، قاطعين الطريق على المنكوبين الحقيقيين الذين منعتهم نفوسهم العفيفة عن المنافسة والتكالب.

لا يخلو كل ما تم استعراضه من أن يكون صوراً ذهنية يدفع إليها الوهم. ولعل من أولويات بناء المستقبل السوري أن نعي أننا شعب عادي كالبقية، وربما أصبحنا أسوأ منهم نتيجة الظروف المنهكة التي استمرت لأكثر من عِقد، وعلى أرضية أخلاقية مهتزة.

كلمات مفتاحية