قتل المفتي رمزياً في دمشق وتماهي الأسد مع السلطة الدينية

2021.11.17 | 04:37 دمشق

qtl_almfty.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعبت المؤسسة الدينية منذ استلام حافظ الأسد للسلطة دوراً مهماً في توطيد السلطة وبقاء الاستبداد في سوريا. بينما هناك دراسات تقوم بفهم علاقة الدولة المستبدة بالمجتمع بأنها قائمة على استخدام العنف، الخوف أو الأمن لضمان بقائها، فإن التعبئة الإيدولوجية وبما فيها الدينية هي أيضا من ضمن المجالات التي تسعى الدولة المستبدة للسيطرة عليها. 

يمكن فهم العلاقة التي سادت بين المشيخة السنية والتي تم تفعيلها وإبرازها من قبل نظام البعث مع النظام البعثي قبل ٢٠١١ على أنها علاقة ذات حدود تفاوضية كان فيها مجال للتقويض، العداء والاستقطاب. 

كانت الإستراتيجية الرئيسية للنظام على مدى العقود التي تلت استلامه هي تسهيل نسخة متجانسة وغير طائفية للإسلام في المدارس ووسائل الإعلام، وبالتالي إدارة علاقة الدولة مع الأغلبية السنية والمساعدة في الحفاظ على الدعم من قبل التيار السائد لبعض علماء السنة.

وقام نظام البعث في تحديد علماء سنة معينين كانوا مهتمين في المقام الأول بالتعليم الديني والأخلاق العامة بدلاً من السعي وراء السلطة السياسية. قدم النظام لهؤلاء القادة معونة لوجستية ومالية، وحافظ على علاقات إيجابية بشكل خاص مع قادة المجتمعات الصوفية، التي كان يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها "هادئة وغير سياسية". فضل النظام الشيوخ المنتمين إلى الصوفية لكون الصوفية مرتكزة على الخضوع الشخصي لتوجيهات هؤلاء الشيوخ كجزء مهم من سعي الفرد إلى الله، مما يؤدي إلى رسم هيكل عمودي في علاقة الشيخ الصوفي مع الفرد.

وهكذا، من خلال الحفاظ على علاقات ودية مع غالبية قادة الصوفية السنة، كان البعثيون قادرين على إضعاف المعارضة الدينية الشعبية بين أتباعهم، وكذلك بين السنة بشكل عام.

وكان هذا واضحا في دعم حافظ الأسد للشيخ الصوفي أحمد كفتارو ورفعه إلى أعلى منصب ديني في البلاد، وهو منصب المفتي. كان كفتارو يتمتع بشعبية كبيرة ولديه دعم قوي بين الطبقة الوسطى في دمشق. بصفته مفتيًا، تعاون بشكل كامل مع مؤسسات الدولة، بما في ذلك المخابرات. مكّن هذا النوع من التعاون والمحسوبية قادة الصوفية من نشر تعاليمهم مقابل دعمهم غير المشروط للبعثيين. وبينما استفاد النظام بلا شك من هذا التحالف، فإن غالبية قادة الصوفية كانوا أيضا نشيطين وفخورين بعلاقتهم الخاصة بالدولة. وقاموا باستخدام سردية "أخلاقية" واعتذارية بالوقت نفسه للجمهور العام تتلخص في أن دعمهم للرئيس كان له هدف إلهي، وهو ضمان بقاء ممارسات النظام "إسلامية". 

بعد وفاة حافظ الأسد في عام 2000، واجه نجله بشار وضعًا إقليميًا مزعزعًا بشكل سريع. إذ أدى غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003 واغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق (ومعارض الأسد) رفيق الحريري عام 2005 إلى توتر كبير في مكانة سوريا الدولية وهيمنة النظام المحلية. وبدأ بشار على نحو متزايد في الذهاب إلى أبعد من والده في الاعتماد على الخطاب الديني باعتباره أحد أعمدة مطالبة النظام بالشرعية، وتكثيف العلاقة تدريجياً بين الدولة والمشيخة السنية. 

وأوضح توماس بيريت التحول نحو التقوى في خطاب الأسد بعد عام 2005، مشيرًا إلى أنه خلال هذا الوقت بدأت الدولة البعثية في السماح بالرموز الدينية العلنية في المسيرات الشعبية ومنحت سلطة موسعة للزعماء الدينيين السنة. بينما استخدم حافظ الأسد "الإسلام" أحيانًا بشكل متقطع كأداة لمشروعه القومي، تميزت السنوات العشر الأولى من حكم بشار بجهود لتوسيع هذه التحالفات وتعزيزها. وسعى بشار بشكل خاص إلى جلب ائتلاف أكبر من النخب السنية المحلية، التي كان لبعضها في السابق علاقات متناقضة أو حتى متضاربة مع النظام. 

على الرغم من التوسع المستمر في التحالفات بين الدولة والمشيخة السنية، حافظ الشيوخ السنة في سوريا على درجة كبيرة من الحكم الذاتي في الفترة التي سبقت اندلاع ثورة 2011.

وبعد انطلاق الثورة تحولت جهود بشار لاستمالة القادة السنة إلى موقف أقوى بكثير، وعمل على تطييف "الأزمة" من خلال تكريس سردية أن ما يحصل في سوريا هو ليس ذا مطلب سياسي بل هو عداء للدين. ومن هنا بدأ الأسد في مرحلة إنشاء وتعزيز جبهة قومية دينية مجهولة الهوية (أي من دون رمز ديني واضح). في هذه الصيغة الجديدة، لم تقم الدولة فقط بدعم أو تشجيع وجهات نظر دينية معينة بطريقة زبائنية، بل قامت بدلاً من ذلك بفرض تفسير "معين" للدين باعتباره أمرًا أساسيًا و لم تعد ديناميكية ما بعد عام 2011 قائمة على سيناريوهات التكيف أو الاستقطاب الذي يمكن أن يُفهم فيه العديد من القادة الدينيين على أنهم مع الأسد أو ضده.

وبدلاً من ذلك، قدمت مفردات جديدة تصف المعارضين بأنهم "منافقون" و"أصوليون". لقد لاحظ علماء آخرون، مثل Pierret و Line Khatib، وكذلك في أعمالي السابقة، الانعطاف نحو نظرة دينية ترعاها الدولة في سوريا بعد عام 2011. لم يكن مجرد استمرار لاستراتيجيات الاستقطاب السابقة ولكنه تحرك نحو السيطرة الكاملة وتأميم السلطة الدينية، مما أدى إلى طمس الحدود الوظيفية بين الدين والدولة.

خطابات الأسد و فرض فردانيته على القطاع الديني 

أكدت خطابات الأسد قبل عام 2011 بانتظام على الطبيعة غير الدينية للدولة البعثية، حتى عندما سعى للحصول على الدعم المتبادل والتحالفات مع القادة الدينيين. ظهر هذا التوجه بشكل خاص في خطابات الأسد للجماهير الغربية. في الواقع، لم يكن مختلفًا بشكل كبير عن المواقف العلمانية المختلفة جنبًا إلى جنب مع الإيماءات نحو الأشكال السائدة للدين التي كثيرًا ما نراها بين قادة الديمقراطيات الغربية.

وفي مقابلة مع الجريدة الأميركية تشارلي روز، أواخر مايو 2010، ذكر الأسد أن إبقاء المجتمع السوري علمانيًا كان أحد أكبر تحدياته وطموحاته. بعد اندلاع الانتفاضة في عام 2011، كانت هناك تغييرات ملحوظة في خطاب الأسد عن الدين. بدأ يطمس بقوة التمييز بين الدولة والدين والتخلي عن خطاب العلمانية لصالح "إسلام معتدل" ترعاه الدولة. كان هذا هو الحال حتى في الخطب والمقابلات التي استهدفت الجماهير الغربية، حيث كان التعريف الجديد للمواطنة مقترناً مع الإسلام المعتدل بمثابة محاولة لربط استمرار بقاء النظام بخطاب إزالة التطرف الذي ساد في "الحرب على الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة.

كما سعى بشار الأسد إلى إبراز وتعريف نفسه كمدافع عن ما سمّاه "الدين الصحيح" أو "الحقيقي"، إضافة إلى المدافع عن الدولة وأمنها. وعلى الصعيد الخطابي، يعتبر هذا الخروج عن العلمانية التي كان يتبجح بها بشار الأسد في معظم مقابلاته مع جهات خارجية تحولا صارخا لآلية ديناميكيات العلاقة بين المجال الديني والسياسي في سوريا.

ومن هنا ركزت خطابات الأسد الموجهة إلى القادة السنة داخل سوريا بين عام 2014 -2021، إلى ضرورة دمج فكر الأسد وفهمه للدين بشكل متزايد في الخطب الدينية لهؤلاء الشيوخ مثل الحسون وابنه. ولطالما كان الخطاب التصادمي والإقصائي المتمثل في "أن تكون معي أو ضدي" عنصرًا أساسيًا في الخطاب البعثي، لكن هذه الثنائية في خطابات الأسد بعد عام 2011 للعلماء بدأت في دمج التمييز بين المواطن المخلص الذي يحمل المعتقدات الدينية "الصحيحة" و"الكافر" الذي ينشر أفكارا كاذبة عن الدين. بعبارة أخرى، سعى الأسد إلى إضفاء الطابع الأمني على الدين من خلال ربط الفهم البعثي للدين بشكل مباشر بالهوية الوطنية وتصوير الخلاف الديني على أنه تهديد للأمة. لم يكن الهدف من هذا الخطاب مجرد تشكيل تحالفات تكيفية أو الحصول على الخضوع السياسي من العلماء، ولكن بدلاً من ذلك لفرض تعريف إيديولوجي علني مع تفسيرات النظام المفضلة للقرآن.

بينما في العقود التي سبقت اندلاع الثورة في عام 2011، كانت العلاقة بين النظام البعثي ودين الأغلبية في سوريا؛ الإسلام السني، تتأرجح بين العداء والاندماج. وأدت الحرب إلى قيام الأسد بالترويج لفكرة "إسلام معتدل" بديل يرتبط بقوة بالاستقرار الوطني.

اعتمدت خطابات الأسد بعد عام 2011 على تكريس ربط حماية أمن الدولة بالعقيدة الدينية عندما وصف الأسد الجيش بأنه "جيش عقائدي" دوره الأساسي ليس فقط حماية الدولة بل أيضا الحفاظ على الإسلام والأمة.

قُدّم هذا التقديس للجيش كمبرر لاستخدام العنف ضد المتظاهرين، وبمعنى أوسع، عزز مرة أخرى عدم الفصل بين البعثية كإيدولوجية والفهم "الصحيح" للإسلام. من هذا المنظور، كما أعلن الأسد في خطابه، "حماية الأمة واجب إسلامي"، وهو ما اقترح أنه يجب إقراره ونشره من قبل جميع الشيوخ السنة.

في خطاب 2014 الموجه لوزارة الأوقاف، رسم الأسد أيضًا روابط بين الفهم الإسلامي للأسرة والمتطلب الديني المفترض للولاء للدولة. واعتمادًا على النموذج الأبوي للأمة المفضلة من قبل الأنظمة الاستبدادية حول العالم، أوضح الأسد: "في الإسلام، الأمور واضحة جدًا حيث توجد العديد من الآيات والأحاديث القرآنية التي تصر على مفهوم الأسرة والعلاقة بين الأبناء وأولياء أمورهم وضرورة طاعتهم. والطاعة واجبة.. لماذا؟ لأن الأسرة هي الوحدة الأساسية في المجتمع، وإذا تم تدميرها فسيهلك كل شيء آخر (..) وبالمثل، عندما يتعلق الأمر بالدولة، ربما إذا كان مفهوم الدولة موجودًا في بدايات الإسلام، فستجد الكثير من الآيات والأحاديث القرآنية التي تصر على طاعة الدولة. الدولة بالنسبة لنا مثل الأب والأم. إذا سقطت، يسقط المجتمع بمفهومه الحديث".

مع العلم أن طاعة الأب هي أمر منتشر في الثقافة الإسلامية، شجع الأسد هذا الخلط الممتد إلى حد ما بين الأسرة في الإسلام التقليدي والدولة الحديثة كطريقة للإيحاء بوجود مطلب ديني للولاء والخضوع للنظام. ودعا العلماء السنة لنشر هذا التعليم كمكوّن أساسي للفهم "الصحيح" للإسلام.

ولتعزيز تفسير الدولة للإسلام، اقترح الأسد بعد ذلك على العلماء توسيع وإصلاح المؤسسات الدينية السنية. على النقيض من الشراكات السابقة التي تضمنت تقديم الدعم لرموز سنية معينة في المجتمع الديني.

وهذه المبادرة ستحدد التعاليم المقبولة بشكل أكثر صرامة وسترسم حدودًا حادة بين من يعرفهم النظام "شيوخاً مخلصين" وغير الموالين، مع وصف هؤلاء بأنهم منافقون وأعداء. يدعو خطاب الأسد إلى إضفاء الطابع المؤسسي على القطاع الديني باستخدام الشورى لضمان الترويج للإسلام "الشامي" في جميع أنحاء البلاد. في السياق الإسلامي الأوسع، يهدف هذا الشكل من الاستشارة إلى الحد من الاصطلاحات والاختلافات في التعاليم الدينية.
ومع ذلك، في سياق هذا الخطاب، يبدو أن القصد منه هو استغلال الدين لخدمة مطالب الدولة وأهدافها: "علينا تطوير هذا الاجتهاد لتحديد الحدود بين ما هو صواب وما هو خطأ وما هو مهم جدًا هو أن هذا التعيين للحدود بين يديك. وهذا عمل والتزام وطني يعني أنك تحمي بلدك".
كان هدف الأسد في هذا الخطاب هو تجنيد العلماء "المعتدلين" كعملاء لأمن الدولة، ودعوتهم إلى الترويج للتفسيرات الدينية التي يفضلها النظام، والتنديد بالتعاليم غير المرغوبة سياسيًا، والدفاع عن الدولة البعثية في التعاليم الدينية العامة. 
خلال خطابه في 2017، روج بشار الأسد لرؤية قوية لمجتمع ديني متماسك وداعم، والذي ارتبط مرة أخرى بالولاء للنظام وتميز بشكل حاد عمن سماهم "أعداء الدولة والإسلام". كانت كلمته التي اختارها لأي شخص غير موالٍ بأنه "إرهابي"، وهو مفهوم يمكن توسيعه إلى أجل غير مسمى تقريبًا ليشمل أي فرد لا يدعم الحكم البعثي: "نحن نواجه عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين. أنا لا أتحدث عن الإرهابيين الذين يأتون من الخارج. عندما نتحدث عن عشرات الآلاف من الإرهابيين، فهناك فرد من العائلة، أو قريب، أو جار، أو صديق، أو أشخاص آخرون تعرفهم. أعني، نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين، حتى لو كان لدينا الملايين، نقول الملايين (..) يتحمل كل فرد في هذا المجتمع المسؤولية حسب موقعه (..) ولكن بما أن الساحة المختارة [لأعدائنا] دينية وطائفية، فإن القطاع الديني - ممثلاً برجال الدين والدولة ممثلة بالوزارة الدينية (أي وزارة الأوقاف) - يجب أن يتحمل مسؤولية خاصة عن الأزمة".
كان هذا التصور لأي شكل من أشكال المعارضة على أنه إرهاب جزءًا من تطبيع استخدام العنف ضد المتظاهرين، لكنه أكد أيضًا على مطلب النقاء الإيديولوجي والتزام الشيوخ السنة بدعم النظام خشية أن يتم وسمهم بالإرهاب في حال رفضهم تقديم الولاء. 
ذهب الأسد إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى وجود تداخل كامل بين الفهم الديني "الصحيح" والوطنيين الحقيقيين: "لا يوجد تعايش لأن هذا يعني أننا مختلفون. يجب أن يكون هناك تجانس وهذه هي الوطنية".
من خلال دمج رؤيته للمجتمع الوطني مع تعريفه للدين "الصحيح"، سعى الأسد إلى تأسيس عقد اجتماعي جديد مع شيوخ السنة. وهنا عرض احتمال توسيع ونشر نفوذهم، بما في ذلك الوصول إلى أموال الدولة لهذا الغرض. 

في المقابل، طالب بالولاء المطلق والتعريف الواضح للدين بالدولة. عند وصف المجتمع القومي الديني الناتج، واستخدم الأسد مصطلحات دينية صريحة، معلناً أن الإجراءات المتخذة ضد الدولة يجب اعتبارها كفرًا وأن المتظاهرين الذين قاوموا الدولة ينتهكون الأوامر الدينية فقال: "المطلوب منك ليس فقط محاربة التطرف ولكن تعزيز المصطلحات الصحيحة (..) يتمثل دور العلماء في الشرح والتوضيح للناس من وجهة نظر شرعية أن الوقوف ضد الدولة ليس عملاً سياسيًا ولكنه عمل ديني (..) يجب على العلماء الاعتماد على الأحاديث والآيات القرآنية ليوضحوا للمحتجين على الدولة أن هذا عمل مخالف للشريعة".
وهكذا كان خطاب الأسد بمثابة تهديد مباشر ضد أي شيخ أو مؤسسة دينية قد تفشل في الترويج بشكل كافٍ للشكل "الصحيح" للإسلام. وناشد الأسد العلماء "عدم استخدام برنامجهم الديني لتحقيق مكاسب شخصية "، والتي تعني في تصوره أي شيء قد يقوض سلطة الدولة أو يساعد المنشقين. وأكد أن المساجد ليست مملوكة لشخص معين. وحذر من أنه سيحمل العلماء السنة مسؤولية الحفاظ على الأمن والاستقرار، مشيرا إلى أن أي خيانة إيديولوجية سيتم التعامل معها بأقسى الطرق. ومن هنا بدأت مرحلة خلق منظومة دينية متجانسة فاقدة لأي قيادة من قبل رمز سني معين.

مع استمرار الصراع في سوريا على مدى السنوات اللاحقة، كان النظام قادرًا على تحقيق وضع عسكري مستقر نسبيًا، مع القليل من التهديد المادي المباشر لسلطته. لكن خلال هذا الوقت، استمر الاعتماد على الدين في التوسع كجانب من جوانب نضال النظام من أجل الشرعية والاستقرار الاجتماعي. وكان الجديد في خطاب الأسد عام 2017 هو أنه تجاوز المناشدات والتهديدات الخطابية، مضيفًا إشارات إلى مجموعة متنوعة من المبادرات العملية التي كان النظام يطبقها لتحقيق أهدافه الأمنية تجاه الدين.
والأهم من ذلك، أعلن الأسد في هذا الخطاب عن إنشاء جماعة دينية شبابية جديدة بقيادة الدولة (الفريق الديني الشبابي). كان الهدف العلني لهذه المنظمة الوطنية هو تحديث التعليم الديني الدعوي بطريقة قللت من قوة المؤسسات السنية القائمة.
وأوضح الأسد أن إنشاء المجموعة سيساعد في تعزيز الروح الوطنية الدينية ودمج العلماء الأصغر سناً في جهاز الدولة. سيتم تكليف أعضاء جماعة الفريق الديني الشبابي قانونيًا بنشر الإسلام "الشامي" وإجراء تحقيقات أمنية تتعلق بالانشقاق الإيديولوجي.
في الواقع، أدى إنشاء هذا الجسم الوظيفي إلى جعل الخطاب المتعلق بالدين خطابا أمنيا من خلال ربط العقيدة الدينية مباشرة بجهاز إنفاذ أمن الدولة. من الجدير بالذكر أنه خلال حقبة ما قبل عام 2011، منعت الدولة البعثية إنشاء هيئة تمثيلية لعلماء الدين، وبدلاً من ذلك فضلت الترويج لقادة مختارين مثل كفتارو والبوطي. 


هذا التحول في الاستغناء عن رمزية سنية قوية وإنشاء مجموعة مجهولة الهوية ومتجانسة من العلماء الشباب الذين حُشدوا لتأييد خطاب الأسد الرسمي يندرج تحت عدم اكتفاء النظام بتأليه صورة الأسد كممثل عن الدولة بل أيضا ممثل عن المجال الديني. 
هذه الحاجة الأمنية لامتداد فردانية الأسد واستحواذه على القطاع الديني بدأت مع صعود نبرة إسلامية بين المعارضة. كان قد أوجع النظام أن شيوخاً معروفين ولهم شعبية في المجتمع السوري (مثل أسامة الرفاعي ومحمد راتب النابلسي) انقلبوا ضد النظام، وهنا أعلن الأسد عن حاجة الدولة إلى وجوه دينية جديدة تنقلب على الرموز السابقة. واعترف الأسد في هذا الخطاب بأن النظام لم يعد بإمكانه الوثوق بالمؤسسات السنية المستقلة نسبيًا التي كان يعتمد عليها سابقًا بطريقة زبائنية.
بدلاً من ذلك، ستحتاج الدولة إلى المشاركة بشكل مباشر أكثر من أجل إصدار تفسيرات موالية للإسلام "الشامي".

تحديث وتأميم الإسلام السني

ربط خطاب عام 2017 إنشاء مجموعة الشباب الدينية ببلاغة "تحديث" المؤسسات السنية. وتمت مساواة هذا التحديث بتفكيك استقلالية وسلطة الأعضاء الأكثر تميزًا في التسلسل الهرمي الديني في سوريا وتوحيد وجه القيادة الدينية من خلال تعزيز كادر من العلماء الأصغر سنًا وغير المعروفين. لن تنبع قوة هؤلاء العلماء الدينيين الجدد من شعبيتهم الداخلية في الوسط السوري ولكن من الاعتراف بهم من قبل مؤسسات الدولة.
بالطبع، سيسمح هذا أيضًا للأسد بالضغط على العلماء الشباب للمشاركة في دعاية الدولة وإعطاء التأييد الديني لقرارات الحكومة. ووفرت وسيلة عملية لتطبيق الهوية القومية والدينية التي تصورها الأسد، والتي يكون فيها الاندماج مع النظام مرادفًا لكونك مؤمنًا حقيقيًا بالإسلام.
في هذا الخطاب، ألمح الأسد بإيجاز إلى الدور الذي لعبته الأجيال السابقة من العلماء في تعزيز المشاعر الوطنية في سوريا، لكنه أعلن أن هناك حاجة إلى ترتيب جديد للمؤسسات الدينية لمواصلة هذا المسار في مواجهة الأزمة المستمرة. عند مناقشة دور الزعماء الدينيين، قام مرارًا وتكرارًا بتبادل مصطلح "الوطنيون" مع "العلماء" ، مشيرًا بشكل بلاغي إلى أن جميع العلماء المخلصين وطنيون - وأن المعارضين لا يمكن أن يكونوا قادة دينيين شرعيين. 
ولمزيد من التأكيد على الانفصال عن المؤسسات القديمة، قدم الأسد أيضًا مجموعة متنوعة من الإصلاحات التي ستنفذ في مجموعة الشباب الدينية، مثل إشراك النساء في فئة العلماء. ووصف النساء بأنهن وطنيات أكثر موثوقية، وأقل دافعًا للفردانية، ووصف النزعة التقليدية لإبعاد النساء إلى مرتبة ثانوية في القيادة الدينية كمبرر إضافي لمؤسسة دينية جديدة وحديثة. في جماعة الشباب الدينية، أعلن الأسد، أنه لن يتم فصل العلماء الذكور والإناث بعد الآن.
يبدو أن خطاب التحديث هذا صُمِمَ لتجنيد أي جمهور سني متاح قد يكون محبطًا من المؤسسات الدينية التقليدية. بالإضافة إلى الدعم الاسمي لمساواة المرأة. سلط الأسد الضوء أيضًا على الحاجة إلى استخدام تقنيات جديدة موجهة للشباب مثل وسائل التواصل الاجتماعي في نشر رسائل الإسلام المعتدل والوحدة الوطنية. وأعلن أن "المستقبل يخص الشباب". على الرغم من طابعها الديني، يبدو أن نموذج جماعة الفريق الديني الشبابي شبيهة بمنظومات بعثية وإيدولوجية مثل طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة. تؤكد هذه المنظومات البعثية على المثل العليا للوطنية ونكران الذات والتفاني العسكري للنظام. يمكن فهم اهتمام النظام في السيطرة على القطاع الديني من خلال جماعة الفريق الديني الشبابي على أنها ببساطة توسيع استثمار الدولة في تشكيل الشباب السوري إيديولوجيًا بحيث يمتد إلى عالم عقيدتهم الدينية كوجه جديد للتسخير الاجتماعي والسيطرة.
وهنا أعود إلى ما ركز عليه الأسد في خطابه عام 2017 على أن المؤسسات الدينية يجب أن تلعب دورًا مهمًا في التقليل من النزعة الفردية والأنانية من أجل تعزيز رؤية اجتماعية / وطنية أوسع. ودعا العلماء إلى التأكيد على الأسس الأيديولوجية المشتركة التي يشترك فيها جميع المسلمين في معارضة الفتاوى المستقلة المتضاربة غير المحددة والتي من وجهة نظره تروج للفتن الاجتماعية وتخنق المجتمعات الإسلامية. ووصف الأسد نظرته بـ "فقه الأزمة" ودعا جماعة الفريق الديني الشبابي إلى تنفيذها.
 في الواقع، نُشرت أجزاء من خطابات الأسد فيما يتعلق بالدين والوطنية منذ ذلك الحين على نطاق واسع من قبل هذه المجموعة، بما في ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي (غالبًا مع خلفية موسيقية عصرية). 
وعند مناقشة "فقه الأزمة"، أوضح الأسد مرة أخرى مدى استثمار الدولة في فرض وتأميم تعريف محدد للإسلام. وطلب من "العلماء إعادة صياغة مفهوم استخدام مصطلحات معينة وكيفية تعريفها". كما طلب الأسد مساعدة العلماء في إيجاد طريقة منهجية ومتطورة (منهج) لتوجيه رسالة الإسلام "الشامي" نحو الجمهور.
ألقت وجهات النظر المؤسسة في هذا الخطاب ضوءًا مهمًا على أنشطة النظام اللاحقة. وأوضح الأسد أن الغرض من اهتمام النظام بالإيمان هو "تحييد" المشهد الديني في سوريا وتعبئة الإسلام لمساعدة الحزب على البقاء. لقد فسرت في مقال سابق تحول النظام إلى الدين على أنه اعتراف للمتطرفين وخيانة للعلمانية،  ولكن هذا كان على الأقل تبسيطًا غير دقيق جزئيًا. وكان الدافع الفعلي الكامن وراء تحول النظام إلى الدين هو إضفاء الطابع الأمني على الإسلام ودمجه في خطاب الهوية الوطنية بطريقة ترسم خطوطًا صارمة بين العقيدة "الشرعية" والمعتدلة والتطلعية التي تقرها الدولة ووجهات النظر الدينية المعارضة الخطيرة، كما يطلق عليها النظام.
وعلى سبيل المثال؛ أصدر الأسد المرسوم رقم 16 لعام 2018، الذي منح نفوذًا وسلطات سياسية أوسع لوزارة الأوقاف، التي تشرف بالفعل على المدارس والمؤسسات الدينية. كما يحظر المرسوم على الأئمة والمؤذنين وغيرهم من المعلمين الدينيين "إثارة الفتنة الطائفية" ، و"استغلال البرامج الدينية لأغراض سياسية"، والانتماء إلى أحزاب سياسية محظورة أو غير مرخصة، والمشاركة في مؤتمرات دينية غير معتمدة، أو حتى مغادرة الأراضي السورية من دون موافقة الدولة. ومن بين المهام الجديدة التي أسندها المرسوم إلى الوزارة "التنسيق مع وزارتي الإعلام والثقافة للإشراف على برامج العمل الديني في جميع وسائل الإعلام، فضلاً عن المطبوعات الدينية".
وفُسر هذا المرسوم على أنه إعطاء قوة للمشيخة السنية، ولكن بالأحرى يكرس هذا المرسوم رغبة النظام بإضفاء الطابع الأمني على وجهة نظر معينة للإسلام والمرتبطة بمصالح النظام.

إلغاء رمزية "المفتي"

ضمن مشهد المذهب السني السوري في المناطق التي يسيطر عليها النظام، كان يُنظر إلى العلماء البارزين مثل أحمد كفتارو ، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ومحمد راتب النابلسي على أنهم تجسيد للسلطة الدينية، بينما سعى الأسد بعد 2011 إلى تحويل هذه السلطة إلى شخصه. في وجهة نظري، يندرج تعديل المادة من المرسوم التشريعي القاضي بتعزيز دور المجلس الفقهي ومعه إلغاء دور المفتي إلى رغبة الأسد في تقويض المجال الديني وخلق هوية متجانسة معدومة الرمزية وفاقدة للحدود التفاوضية مع الدولة وبالتالي ترسيخ قدرة الدولة لأمننة القطاع الديني وفرض مفهومها الخاص عن "الدين والوطنية" في سوريا. التخلص من رمزية المفتي ممكن أن توجهنا إلى سؤال من هو قاتل محمد عدنان الأفيوني ومن هو قاتل محمد رمضان البوطي؟ ولماذا اليوم يقتل "المفتي" من خلال تعديل هذه المادة؟ مما أوردته سابقاً، لا بد من الإشارة إلى أن إلغاء منصب المفتي هو جزء من استراتيجيات طويلة وعميقة نفذها النظام خلال العقد السابق ومن أهمها إلغاء أي مرجعية فردية أو رمزية سنية قد تقود المجتمع السني السوري يوماً ما.