قامات وأقزام

2020.07.13 | 00:01 دمشق

bwtyn_wbshar.jpg
+A
حجم الخط
-A

يبدو أن القامات الأدبية العملاقة في تاريخ روسيا، أمثال تولستوي وتشيكوف وغوغول ودستوفسكي، لم تستطع تهذيب حكامها، أو تشفع لشعبها، الذي شاء قدره العاثر أن يحكمه في كل قرن من ماضي الزمان حتى حاضره دكتاتور متنمر بصيغة أو بأخرى. ففي القرن التاسع عشر ابتُلي  بالقيصر نيكولا الثاني الذي امتلك الأرض ومن عليها، وتعامل مع الإنسان الروسي الطيب كعبد أو قنٍّ يحسد الحيوانات على معيشتها؛ ثم جاء ستالين في القرن العشرين ليقتل طاقة الإبداع عند الإنسان الروسي، ويجعله يشك في نفسه؛ وها هو الآن ما يعرف بلاغياً بـ"القيصر الجديد" يستفيد من أخطاء سلفيه السابقين، ليرخّص لنفسه حكماً أبدياً، حيث خلع الثوب الخارجي للشيوعي الأحمر، وارتدى ثوب كهنوت الكنيسة الأرثوذكسية كما فعل نيكولا الثاني، ولكنه استبقى تكتيك ستالين في قهر النفوس من خلال جهاز مخابرات وريث KGB محاولاً إيهام العالم أن توليه الحكم مباشرة ومداورة لفترة عشرين سنة هي عين الديمقراطية وزبدتها.

بشكل عام، يتميز الدكتاتور بنَهم لاحدود له، وشهية للاستيلاء على مقدرات الآخرين الفكرية والمادية لا ترتوي؛ وعادة ما تستحوذ على عقله الباطن فكرة القادر على كل شيء، والفاعل لما يريد؛ لدرجة أنه لا يعرف أن يسأل: لماذا؟ بل يسأل دوماً: لماذا لا؟ إن إسقاط هذه العقلية على حكام روسيا الحديثة، يدفع إلى طرح سؤالين حول منهجية هؤلاء الحكام ودوافعهم في اتخاذ قراراتهم فيما يتعلق بالسياسة الخارجية التي يغلب عليها صفة التوسع والطغيان الخارجي؛ وعن مدى نجاح هذه السياسة أو السماح بتمددها في السياق العالمي الحالي.

كسوريين، لا يعنينا قفز بوتين إلى القرم أو جورجيا أو أوكرانيا إلا بقدر ما يعطي من إشارات توضيحية لفعلته في سوريا. لم يفسح التحالف الدولي لروسيا الاشتراك في "شرف" القضاء على ما اصطُلِح على تسميته بإرهاب داعش؛ إلا أن بوتين تدبّر أمره سريعاً بالقفز إلى قلب القضية السورية عبر دعوة اشترك بتوجيهها منظومة الاستبداد الأسدية وملالي ايران بميليشياتهم التي فشلت في حماية النظام من السقوط، فأتت مستجيرة ببوتين الذي اغتنم فرصته الذهبية لوضع اليد على سوريا عبر نظام متهالك وملالي الخبث الذين حرصوا أن تكون قوة عالمية موجودة على الأرض السورية لخلق التوازن مع التحالف بقيادة أميركا.

حمت روسيا النظام باستخدام الفيتو، حمته بالمشاركة في تدمير أسواق ومشافي ومدارس سورية، ساهمت بالقتل والتهجير وارتكاب جرائم لا تقل وقعاً عن جرائم النظام

حمت روسيا النظام باستخدام الفيتو، حمته بالمشاركة في تدمير أسواق ومشافي ومدارس سورية، ساهمت بالقتل والتهجير وارتكاب جرائم لا تقل وقعاً عن جرائم النظام، استعرضت مختلف صنوف الأسلحة على الأرض السورية، عرقلت الحل السياسي حسب القرارات الدولية ما استطاعت، وسعت إلى حرف المسار حسب مصالحها وعلى قياس النظام باستخدام بهلوانيات غبية، أكدت مراراً أنها في سوريا لا لحماية بشار الأسد بل لحماية سوريا، ليتبيّن أن سوريا مستباحة تماماً، والأسد محميّ من قبلها  فقط كمُشرعِن لمصالحها.

هل سيكون مسموحاً لموسكو بالتمدد؟ ربما؛ ولكن التمدد المستنقعي والاستنزافي. ولم يحتج أولئك الذين يريدون هكذا حال لموسكو الكثير من العناء؛ فهي تكفلت أن تنجز ذلك بيدها وبعبقرية سياستها الخارجية؛ فموسكو - إضافة إلى الفيتو وارتكاباتها الإجرامية - لم تترك  وسيلة للتهرب من العملية السياسية الحقيقية إلا وجربتها: من أستانا إلى سوتشي إلى مساعٍ لبعثرة المعارضة وصولاً إلى  التماهي مع مسلك النظام وإيران في سوريا مرغمة لا مختارة.

مؤخراً، وعندما لم يعد أمام النظام وإيران من خيار إلا الاستمرار بالحرب للهروب من أزمتهما، عملت روسيا على عدم التجاوب، فلم تنفذ لهما هذه الرغبة. وهذا يُحسَب لها، ولكن المفارقة أن ذلك ربما لم يكن انعكاساً لتألق سياسي، أو بدوافع أخلاقية؛ بل لأسباب مادية، حيث لم يعد هناك من يدفع ثمن الحرب. بالمختصر المفيد، كي تحقق السياسة الروسية إنجازاً، وكي يتم قبول أوراق الاعتماد الروسية حيث تريد، لا بد من إخراج ايران من سوريا، ولا بد من جلب النظام إلى عملية سياسية؛ ولا بد من التفاعل مع الأمور الواجبة التنفيذ في قانون قيصر كإطلاق سراح المعتقلين ووقف أي عمل عدواني، ورفع الحصار لإدخال المساعدات لمن يحتاج إليها.

حتى الآن تتعثر روسيا بالقيام بأي من الأمور أعلاه؛ وزاد في الطنبور نغماً أنه عندما أدرك كل من النظام وإيران أن روسيا تضغط عليهما؛ ذهبا إلى اتفاقية التحالف الاستراتيجي أمام أعين موسكو؛ وكأنهما يتحديانها ويفعلان ذلك نكاية بها. وبما أن هدف الاتفاق الاستراتيجي "مقاومة وممانعة العدو الصهيوني والتصدي له" فلا يبقى لموسكو إلا أن تنتظر هزيمة نكراء لحلفاء الأمس (النظام وإيران) على يد الصهاينة. وهكذا يخرجان من الاختناق المؤقت إلى الخروج من التاريخ؛ أما موسكو فتخرج من المستنقع المنتظر بفعل الآخر لا بعبقرية سياستها. وعند الجلوس على طاولة الحل لن تكون على رأس الطاولة بسبب سياستها الخارجية "العبقرية المتألقة"؛ والتي خير دليل على تألقها اعتبار وزير الخارجية الروسي في تصريحه الأخير أن أميركا تتداعى وتحاول استعادة هيبتها من خلال محاولاتها الإخلال بالأمن العالمي! هل هذا التقييم واقعي لمن يُوصف بأنه خبير وثعلب السياسة الخارجية الروسية ؟! مسكينة روسيا؛ أدباؤها قامات؛ وقياصرتها أقزام. هكذا الدكتاتوريات؛ ولهذا ثار السوريون.