فيلم "المنصّة": البربرية أعلى مراحل الرأسمالية

2020.04.07 | 00:01 دمشق

tnzyl.jpg
+A
حجم الخط
-A

"هنالك ثلاثة أنواع من البشر، مَن هُم في الأعلى، من هم في الأسفل، ومَن يسقطون". بهذه المقولة يبدأ فيلم "المنصّة" (The Platform) للمخرج الإسباني غالدير كاستيلو أورويتا، بدأ عرضُه في الصالات قُبيل إغلاقها بسبب جائحة الكورونا، مُقدّماً رسالةً شديدة اللهجة إلى عالمنا اليوم، والمتحكّمين بهذا العالم، ممَّن يقودونه بجشَعهم إلى الهلاك.

ينتمي الفيلم إلى أدب الديستوبيا (أدب المدينة الفاسدة)، إلى أعمال مثل "الطاعون" لـ كامو و"العمى" لـ ساراماغو و"سالو" لـ بازوليني، وقريباً "أدب ما بعد الكورونا". تدورُ أحداثُ الفيلم في سجنٍ شاقولي تقعُ حجراته فوق بعضها بعضاً، وفي منتصف كلّ حجرة ثمةَ حفرةٌ مربّعة، تعبرُ من خلالها منصّةُ الطعام من الأعلى إلى الأسفل.  لا نعرف في البداية عددَ الحجُرات الطابقيّة في هذا السجن الواقع تحت الأرض، كإشارةٍ واضحة إلى الجحيم. وبما أنّ منصّة الطعام تسيرُ من الأعلى إلى الأسفل، يتمتّع مَن هُم في الأعلى بقدْرٍ وافرٍ من الطعام. بينما يتغذّى مَن هُم في الوسط على بقايا الطعام التي تصلُهم. أما الذين في الأسفل فلا يصلُهم أيُّ شيء، ولا يبقى لديهم من خيارٍ سوى أنْ يأكلوا لحمَ بعضهم بعضاً (حرفياً). ففي قاع الجحيم البشري، يصحُّ قولُ العرب: "إنْ لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"، أو مقولةُ هوبز: "الإنسانُ ذئب أخيه الإنسان".

وفي كلّ شهر، يتمُّ تنويمُ نزلاء السجن عن طريق غازٍ منوّم، ليتمَّ توزيعهم على الحجرات من جديد، وبذلك تتغيرُ أحوالهم بين شهر وآخر، ما بين الأعلى والوسط والأسفل. يكشفُ الفيلمُ عن حالة من انعدام التواصُل بين نُزلاء السجن الطابقيّ (أو الطبقات الاجتماعية)، فالذين في الأعلى لا يُجيبون نداءاتِ من تحتهم، لأنهم في الأعلى فحسب، والذين في الأسفل لا يُجيبون نداءات مَن فوقهم بسبب حقدهم عليهم وكراهيتهم لهم. وكأنّه يذكّرنا بمقولة حنّة آرنت: "الجحيمُ ليس الآخرين، بل انقطاعُ الصِّلات مع الآخرين، وانقطاعُ الصِّلات بين الإنسان وذاته".

تبدأ أحداثُ الفيلم من الحجرة الطابقية رقم 48، وهي حجرةٌ محظوظة نسبياً، رغمَ أنّ الطعام الذي يصلُها هو الفضلةُ التي تركها 94 شخصاً يقطنون في الطوابق الأعلى. لكنها في النهاية حجرةٌ يصلها طعام، على خلاف الحجرات التي تأتي أرقامها ما بعد المئة. يقيمُ في الحجرة شخصان؛ شابٌّ وعجوز. يحمل الشابُّ بيده رواية "دون كيخوته" للتدليل على أنّه فارسٌ خلُوق، وحالمٌ طوباويّ في الوقت ذاته، وأنه لن يستطيع تغييرَ العالَم البشع بمبادئه النبيلة. دخلَ الشابُّ السجنَ بإرادته، وبغرض الحصول على شهادة جامعية (لم أفهمْ بالضبط ما المقصود من ذلك). أما العجوزُ فقد دخلَ السجن بسبب جريمة قتل، إذ شاهدَ دعاية في التلفاز لـ "مِسَنّ سكاكين" اسمه "ساموراي"، فسَحَرتْه الدعايةُ واعتقدَ أنّ سببَ البؤس في حياته عائدٌ إلى عدم اهتمامه بالتفاصيل، ومنها سنُّ السكاكين، فذهبَ واشتراه. لكنه تفاجأ بعد فترة بظُهور دعاية جديدة لإصدارٍ جديد من الشركة ذاتها، وهو سكّين "ساموراي بلاس" التي تسنُّ نفسَها بنفسها. حينذاك، غضب من السلعة التي اقتناها متوهّماً أنها تجلبُ له السعادة، ورمى التلفاز من النافذة ليقع على رأس مهاجرٍ غير شرعي، ويقتله. يبدو العجوزُ متصالحاً مع حالة الشَّرَه الاستهلاكي والتكالُب على المادة. كما يبدو متصالحاً مع السجن الطابقيّ، فما إنْ تنزل منصّةُ الطعام حتى يندفع إليها بشراهة مقزّزة.

في الشهر التالي، يجد الشابُّ والعجوزُ نفسيهما في الحجرة رقم 161، وهي من الحجرات التي لا يصلها الطعام، وهكذا يستيقظ الشابُّ من التخدير ليجد نفسه موثقاً إلى السرير، ومكمومَ الفم، بينما يسنُّ العجوزُ سكّينه. وحينما يدور حوارٌ بينهما، يصفُ الشابُّ العجوزَ بالقاتل، فينفي العجوزُ تلك الصفة عنه، ويقول إنه خائفٌ فحسب، خائفٌ

كان مجرّدُ الاتفاق بين نُزلاء السجن على تقسيمٍ مُتَساوٍ للحصص؛ كافياً للخلاص من تلك المآسي كلَّها، ومن أكلِ لحمِ بعضهم بعضاً.

لأنّ الشابّ الأقوى منه قد تغلبه حاجةُ الجوع، فيقتلَ ليأكل. وهنا يبدو أنّ الشيءَ الوحيد الذي أخذَهُ العجوزُ معه (السكّين)؛ أفضلُ بكثيرٍ من الشيء الذي  اختاره الشابُّ معه(رواية "دون كيخوته")، ففي الجحيم -عالمنا العالم السفلي هذا- قيمةُ السلاح أعلى بكثير من قيمة الثقافة.القيمة للكتاب ولا حكم للكتاب بل للسكين فقط.

كان مجرّدُ الاتفاق بين نُزلاء السجن على تقسيمٍ مُتَساوٍ للحصص؛ كافياً للخلاص من تلك المآسي كلَّها، ومن أكلِ لحمِ بعضهم بعضاً. لكنّ الحلَّ البسيطَ صعبُ التطبيق، بسبب جشع الإنسان وأنانيّته وانسياقه وراء الاستهلاك السريع، دون التفكير بالآخرين أو بنفسِه حين تدورُ به الأيام. والحلُّ البسيطُ صعبٌ بسبب انقطاع التواصُل، وانعدام الثقة بين الزنازين الطابقيّة (الطبقات الاجتماعية).

ليس فيلم "المنصّة" أوّلَ عملٍ سينمائيّ يتناول نقدَ النظام الرأسمالي، وما فيه من جَشَعٍ استهلاكيّ وصَنَميّةٍ للسِّلعة. لكنه عملٌ يـبُـزُّ غيرَهُ من حيث مشاهده المباشِرة والصادمة والعنيفة والشنيعة. كما أنّ عرضَه في الصالات قُبيل إغلاقها بسبب الكورونا؛ قد ربطَ ما بين الحالتين. فاليومَ، تجدُ دولةً عظمى مثل الولايات المتحدة، تُعاني من نقصٍ في الكمّامات والقفّازات الطبية، لكنها لا تعاني من نقصٍ في الأسلحة النووية القادرة على تدمير الأرض تدميراً كاملاً. ولذلك فلا بُدَّ لهذا العالَم من أنْ يتعلّم من درس الكورونا، وأنْ يُغيّر أصحابُ السلطة من سياستهم الداخلية والخارجية، لأنّ البشرَ لن يستطيعوا الاستمرارَ في هذا العالَم بهذا النهج.

يُنسَبُ إلى ماركس قولُه: "إمّا الاشتراكية أو البربرية"، وهيَ المقولةُ الضمنيةُ نفسها لفيلم "المنصّة"، أي ضرورة تدخُّل الدولة في القطاع الاقتصادي، من أجل الحدّ من جَشع أرباب المال، والحدّ من الفوارق الطبقيّة الحادّة التي تتسبّبُ بحدوثِ حروبٍ وأزماتٍ ماليّة متكرّرة. وبالمناسبة، فلم تنتهِ آثارُ الأزمةُ المالية التي بدأتْ عام 2008، فما زال العالمُ يدفع ثمنها، ومن نتائجها إطالةُ أمَدِ الحروب في سوريا وليبيا واليمن، بغرض بيع مزيدٍ من السلاح يُنعِـشُ اقتصادات الدول المصنّعة. ومن نتائجها صعودُ اليمين المتطرّف في الغرب، بشكلٍ لم يعرفْهُ العالمُ بعد الحرب العالمية الثانية، ومن تبعاته إحياءُ النزعات العنصرية والطائفية والفئويّة الـمُغلَقة.

دَعْ عنكَ مَنِ استخدموا "الاشتراكيّة" كحُجّة لإقامة أنظمة الاستبداد والفساد، ومَن اعتَقَلُوا وقتَلُوا آلافَ الفُقراء باسم "الاشتراكية". فالاشتراكيةُ سِـيَاقٌ أوروبيّ غربيّ، والاشتراكيةُ مِن أولئك الطُّغاة بَراء. نحنُ نتحدّث عن الاشتراكية الفِعليّة، تلك التي تجدُها في دُول أوروبا الغربيّة والشماليّة وكندا، لا عندَ أنظمة الشعارات والعَنْتَيريّات الفارغة.

كلمات مفتاحية