فيكَ “الفِصامُ”، وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ؟!

2020.03.08 | 23:00 دمشق

0003.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثيرة هي الصفات التي تجمع بين فلاديمير بوتين وبشار الأسد؛ وعلى رأس تلك الصفات "الفصام". وكي لا يفرح عبَدَةُ الأسد وشبيحته كثيراً، ويتفاخروا بأن رئيس عصابتهم يشبه رجلاً قوياً كبوتين، حتى ولو بما هو سلبي، فإنهما يشتركان بهذه الصفة، ولكن ينتميان إلى نوعين مختلفين من الفصام: فبوتين، فصامه إرادي، ومتعَمَّد، وجزء من طبيعة عمله السابقة كمخبر، والحاضر كرئيس منظومة بيدها قوة عظمى؛ أما أسدهم، ففصامه لا إرادي، وجزءٌ من كينونته، أو غيابه الفعلي عن الواقع.

المرة الوحيدة التي تطابق بها فصامهما كانت في لقاء بوتين الأخير مع أردوغان. لقد كان مضطرباً؛ لا يعرف أين يضع يديه؛ ولا أين يذهب بعينيه كي يهرب من نظرات ضيفه التشكيكية الاتهامية؛ ولا كيف يضبط حركة رجليه، أو يهدئ من ذعر ملامحه.
دعكم من التضليل الذي أتى به بعض شبيحة المنابر الإعلامية الأسدية، والحزبلاتية، وروسيا اليومية؛ بأن بوتين وضع في تلك القاعة تمثالاً لكاترينا التي هزمت العثمانين، ومنحوتة لجنود روس هزموا الأتراك في بلغاريا؛ فديكور القاعة التي تواجد فيها الوفدان الروسي والتركي هو ذاته، ولم يتغيّر منذ سنين، لا بتماثيله، ولا حتى بكراسيّه؛ وبقليل من البحث، يمكن التأكد من ذلك، وفضح ذلك السخف الدعائي. وقد استقبل فيه بوتين العديد من قادة العالم كالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغيرها، دون أن تكون تركية الأصل أو تعني لها كاترينا تلك وانتصارها على العثمانيين شيئاً.

الفصام البوتيني الإرادي والمتعمَّد تجلّى في الجُمل العشرة التي ألقاها إثر انتهاء اللقاء التركي الروسي. هذه الجمل العشرة حملت خمس حالات فصام أطلقها بوتين في قاعة كاترينا حول شرعية السلطة السورية، ووحدة أرض سوريا وسيادتها، ووقف إطلاق النار، وحماية المدنيين وايصال المساعدات لهم، وإنهاء معاناة النازحين.

أكثر من أي جهة في العالم، يعرف بوتين أن لا شرعية لنظام توقِّع دول أخرى اتفاقات بخصوصه وعلى أرضه ومصيره وسلطته وتصرفه ومقدرات دولته، وهو غائب، وبلا أي اعتبار

أكثر من أي جهة في العالم، يعرف بوتين أن لا شرعية لنظام توقِّع دول أخرى اتفاقات بخصوصه وعلى أرضه ومصيره وسلطته وتصرفه ومقدرات دولته، وهو غائب، وبلا أي اعتبار. وعندما تتواجد عشرات القوى على أرض بلد، وتتقاسم النفوذ والسيطرة والمصالح على أرضه وفيها، فوحدة وسيادة هذه الأرض وهذه الدولة مشكوك ومطعون بها في ظل ذلك.

وكيف يكون وقف إطلاق النار، إذا كانت روسيا ذاتها، ومن تحميه أول من يخترق كل قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في سوريا، مرة في بدعة أستانا، وأخرى في سوتشي، فأي وقف إطلاق نار هذا؟ وهل حماية المدنيين تكون بقصف سوخوي بوتين لبلداتهم ومشافيهم ومدارسهم وأسواقهم تحت ذريعة محاربة الإرهاب؟ وكيف تنهي معاناة النازحين، وبوتين ومن يدعمه يلاحقون النازحين حتى مخيمات نزوحهم؟

هذا الفصام تمخّض عنه اتفاق هش ٌ هزيلٌ ضبابيٌ غير قابل للحياة في قمة موسكو الأخيرة. ما أُعْلِنَ عنه يحفظ ماء الوجه للفريقين؛ ولكن يعرّي حالة الفصام المتعمّد الذي يعيشه بوتين. يريد ذلك التحالف الاستراتيجي مع تركيا، والذي يحصّنه اقتصادياً، ويهزّ عبره كيان الناتو، ولكنه في الوقت ذاته، لا يستطيع منعه من إلحاق الهزيمة النكراء بمنظومة الأسد سبب وعلّة وجوده "الشرعي" في سوريا. وإن فعل ستتفاقم كارثته. وتكمن مشكلته الأكبر، بأنه لمجرد تخلّيه قليلاً عمّن يحميه في دمشق، سيخسر الحامي والمحمي كل شيء. والآن، وبناءً على الاتفاق الأشوه إياه، يمكن أن يُضرَب ذاك الذي يحميه ثانية؛ ولن يتمكن من الحؤول دون ذلك. فمن قام بفعل التخلي مرة؛ سيفعلها ثانية. تلك هي مفاعيل الفصام وعقابيله؛ والتي سيحصد بوتين المزيد من ثمارها.

هذا الفصام تمخّض عنه اتفاق هش ٌ هزيلٌ ضبابيٌ غير قابل للحياة في قمة موسكو الأخيرة. ما أُعْلِنَ عنه يحفظ ماء الوجه للفريقين؛ ولكن يعرّي حالة الفصام المتعمّد الذي يعيشه بوتين

وانعكاساً لهذا الانفصام والبهلوانية، وبسرعة ملحوظة، حمل بوتين ذلك الاتفاق، وقفز به إلى الأمم المتحدة؛ علّه يكسبه بعضاً من الشرعية الدولية. ربما تهيأ له أن مجلس الأمن سيمنحه شرعنة لوجوده في سوريا، كقوة منتدبة ترتب الأمور بين دولة تتواجد على أرضها وأخرى تختلف أو تتصارع معها؛ والسيد بوتين قوة الانتداب التي تحل المشكلة، ولا تحتاج إلا لمباركة من مجلس الأمن. لسوء طالعه وحساباته الفصامية، خابت محاولته، وتعرى ذلك الفصام عالمياً؛ ورُفض ذلك المشروع الأشوه.

الاحتمالات التي ذُكرت أعلاه حول انهيار الاتفاق، وتصميم تركيا على ما أعلنت عنه من العودة للوضع الذي سبق الاعتداء على الشمال الغربي السوري، سيعرّي بوتين أكثر، وسيضعه بين ألف مطرقة وألف سندان ناسفاً ما أنجز بعلاقته مع تركيا، وما توهم أنه أنجزه في سوريا. إنها حالة "التكتكة" التي يولدها الفصام؛ والتي لن ترتقي إلى مصافي رسم الاستراتيجيات، التي تنهجها دول لا تقودها عصابات. وما لم تنتقل إدارة بوتين إلى هذا الحال؛ وما لم يقتنع أن زمن الانتداب أو الاحتلال قد انتهى،" وما لم يتأكد تماما أنه ما من قوة على الأرض يمكن أن تعيد تأهيل مَن أعطاه "شرعية" التواجد في سوريا؛ سيستمر بالانتقال من فشل إلى فشل، حتى يأتي عليه فصامه.